للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

" أرسطو " أن يتسنم هؤلاء الشباب الأحداث ذروة الفكر ويظهروا بمظهر المنتصر في محاوراتهم ومجادلاتهم، وأن تتهاوى صروح الفلسفة الإغريقية أمام جدلهم القائم على فكرة واحدة هي التشكيك في المعارف البدهية إلى حد إنكار كل الحقائق الموضوعية (١) .

وضاق المسلك الجدلي في وجه الفلاسفة الكبار وهم يواجهون هذه الفكرة التي لا تبقي من نظرياتهم ولا تذر، واستجمعوا عقولهم لمحاصرة هذا الوباء وتحطيم غرور هؤلاء الشبان.

والواقع أن السفسطة لم تنشأ اختراعا من أصاحبها، وإنما من إفرازات مجتمع وثني حقت عليه الضلالة بانقطاعه عن نور الوحي وتعلقه بأذيال الخراصين، وأصولها مستمدة من الفكر الإغريقي نفسه؛ ذلك الفكر الذي قام على أساس نظرية " الجواهر والأعراض " أو " الذوات والصفات " إذ يجعلون لكل موجود "جوهرا" هو حقيقته وماهيته، و "أعراضاً" وهي صفات طارئة، ويتصورن الذات مجردة من كل صفة (٢) !!

فما زادت السفسطة شيئا على أن جعلت الموجودات كلها في حكم الأعراض التي لا جوهر لها، ومن ثم أنكرت - أو شككت - أن يكون في إمكان العقل إثبات أى حقيقة جوهرية.

وإنما انتشرت هذه الفلسفة الحمقاء وطغت بسبب تهافت الفلسفة المقابلة، وقيامها على التخرصات والأوهام، وتناقضها الشديد. ففي حين ترى الفلسفة العامة أن الحقائق التصورية والتصديقية ثابتة في ذاتها، وأن اختلاف العقول في إدراكها أو تناقضها في الحكم عليها يعود إلى طبيعة التفكير الإنسانى ذاته، ترى السفسطة أن المشكوك فيه - حقيقة وأصلا - هو وجود هذه الحقائق، وأنه ما من شيء نفته الفلسفة إلا والاحتمال قائم بأن يكون إثباته أولى، والعكس بالعكس!


(١) انظر عن الصراع بين الطائفتين فصل " السوفسطائيون " من كتاب أحمد أمين وزميله: قصة الفلسفة اليونانية، والفصل الأول من الباب الثاني من كتاب يوسف كرم: تاريخ الفلسفة اليونانية.
(٢) وعلى هذا الأساس اعتقدوا أن الله تعالى وجود مطلق يتجرد عن كل صفة ثبوتية، ومن هنا اتبعهم منكرو الصفات من الفرق الإسلامية - كل فرقة بقدر؛ فمنهم من أنكر الكل، ومنهم من أنكر البعض.

<<  <   >  >>