للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكذلك ترى أنه ما من خديعة أثبتت الفلسفة أن الحس والعقل (١) يقعان فيها إلا ويحتمل انطباقها على ما تظنه الفلسفة قطعيات وبدهيات إن لم يكن ذلك يقين!

وقد دخلت السفسطة من ثغرة في التفكير البشري عامة وهى النسبية اللازمة له؛ فالعلم البشري - المحدود أبدا - لا يستطيع أن يتصور شيئاً غائباً إلا بالنسبة لشيء آخر مشاهد، بل ربما كانت معارفه كلها معتمدة على هذا وهو لا يشعر، أما إدراك كنه الذوات وحقائقها بإطلاق وتجريد، فإن لم يكن محالاً إلى الأبد فهو في كثير من الأشياء عسير للغاية.

ومن هنا رأت السفسطة أن إنكاراً جذرياً لكل الحقائق مهما قيل عن بداهتها كفيل بأن ينسف جميع الأسس الفلسفية التي تقوم - بطبيعة الحال - على الاستدلال على المجهول بالمعلوم، وقياس الغائب على الشاهد، واستنباط النتائج المتنازع فيها من المقدمات المسلمة، وبذلك تتفرد بالانتصار في هذه المعارك الجدلية الضارية.

وهنا لم يجد الفلاسفة الكبار بداً من البرهنة على ثبوت الجواهر أو الحقائق المطلقة استنقاداً للمعرفة من الانهيار، وفي دوامة البحث المضني تفتق عقل أفلاطون عن نظرية "المثال" التي تزعم أن لكل شيء في عالم الواقع نظيره المطلق في عالم المثال.

وكأن أفلاطون اعتقد أن رفع حقائق الأشياء من عالم الواقع إلى عالم المثال يجعله في منأى عن تشكيكات السفسطيين. وأثبت أفلاطون كليات مطلقة مثل "العقل الكلي"، و "النفس الكلية"، "العلم الكلي، وغير ذلك على أنها ماهيات وجودية في عالم المثال، وما يوجد في الواقع من آحاد العقول والنفوس هو أجزاء منها.

وجاء تلميذه أرسطو فأراد أن يضع منهجاً عقلياً للتفكير يجابه السفسطة فاستمد من أستاذه أصل الفكرة حين قرر أن الأفراد والأعيان الموجودة ما هي إلا أجزاء للوجود الكلي المطلق الذي هو ماهية هذه الأفراد وحقيقتها الجوهرية، وفي


(١) خداع الحس كرؤية القلم مكسورا إذا وضع نصفه في الماء، وخداع العقل مثل تصوره انه لو سقطت كرتان من الحديد من رأس برج عال فإن أثقلها تصل إلى الأرض قبل الأخف.

<<  <   >  >>