للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إثبات البدهيات إلا باختلاق المعدومات وتكلف المحالات، وأحسن أحواله أن يعرف الجلي بالخفي (١) .

وكان الوضع الطبيعى أن تبقى هذه التخبطات العمياء رهينة بيئتها وحبيسة أرضها، فلا تفسد بها عقول بني البشر الآخرين، ولكنها - وهو الأمر المحزن حقا - أفسدت العقول والفطر التي استنارت بنور الوحي ونعمت بالعافية من هذه الأوبئة.

والمؤلم جدا أن يتطوع بعض المنتسبين للإسلام بنقل هذه الفلسفة والتعصب لها وتكدير صفو التفكير الإسلامي بها، فلو أنها جاءت نتيجة استعباد يوناني للمسلمين لكان للعذر مقال - مع أن أمة الوحي لا عذر لها في اتباع الضلالات - فكيف إذا أخذتها طائعة مختارة ‍.

لقد نُقِلت هذه الفلسفة والمعركة بين المرجئة وأهل السنة على أشدها، فاستنصر بها أولئك المبتدعة في مسألة الإيمان بعد أن كان موضوعها الأصلى هو نفي صفات الله تعالى، ولكن "الجهمية" كانوا يجمعون بين نفي الصفات والإرجاء، ودار الزمان دورته وإذا بعقيدة الجهمية تصبح عقيدة الكثرة الكاثرة من المشتغلين بالعلم الشرعي، وإذا بأكثر متون العقائد انتشارا يبدأ بعبارة (حقائق الأشياء ثابتة والتشكيك فيها سفسطة) (٢) ، وكأنها هي عقيدة للأثينيين من اتباع أرسطو، لا لمسلمين أتباع محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم!!

جاء هؤلاء المرجئة فأثبتوا تلك الماهيات المطلقة التي اختلقها أفلاطون وأرسطو، وطبقوا كل نتائجها على موضع "الإيمان"، فكانت النتيجة القاصمة وهي أن أعمال الإسلام كله ابتداء من قول لا إله إلا الله وانتهاء بالنوافل، ما هي إلا عرض للإيمان وليس من ماهيته، وأنه من لم يأت بشيء من ذلك قط يدخل الجنة بسلام ولو بعد حين (٣) .‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍


(١) مثل تعريفات الفقهاء الجارية على المنهج المنطقى؛ كتعريف الصلاة بأنها: أفعال وأقوال مخصوصة مفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم، والزكاة بأنها: إخراج جزء من المال مخصوص في زمن مخصوص لطائفة مخصوصة، والصيام بأنه إمساك مخصوص في زمن مخصوص في زمن مخصوص عن أفعال مخصوصة، ونحو ذلك مما ظهرت فيه التجريدية بوضوح، ولو توقفت معرفة هذه المسميات على معرفته لكانت إلى الجهل أقرب.
(٢) كالعقائد النسفية.
(٣) تنبيه: ليس كل أحد من المرجئة أثبت وجود الماهية صراحة، ولكن من لم ينص على ذلك بنى كلامه على أساس ثبوتها فالنتيجة واحدة، وقد تركنا النقول خشية الإطالة، وسيأتي بعضها عند الحديث عن عدم اشتراطهم قول كلمة الشهادة.

<<  <   >  >>