الثالثة: هذه الآية أصل في تناول الأسباب، وطلب المعاش بالتجارة والصناعة وغير ذلك، وقد مضى هذا المعنى في غير موضع، لكنا نذكر هنا من ذلك ما يكفي فنقول: قال لي بعض مشايخ هذا الزمان في كلام جرى: إن الأنبياء -عليهم السلام- إنما بعثوا ليسنوا الأسباب للضعفاء، فقلت مجيباً له: هذا قول لا يصدر إلا من الجهال والأغبياء والرعاع السفهاء، أو من طاعن في الكتاب والسنة العلياء، وقد أخبر الله تعالى في كتابه عن أصفيائه ورسله وأنبيائه بالأسباب والاحتراف، فقال وقوله الحق:{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ} [(٨٠) سورة الأنبياء] وقال: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [(٢٠) سورة الفرقان] قال العلماء: أي يتجرون ويحترفون، وقال -عليه الصلاة والسلام-: ((جعل رزقي تحت ظل رمحي)) وقال تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا} [(٦٩) سورة الأنفال]، وكان الصحابة -رضي الله عنهم- يتجرون ويحترفون، وفي أموالهم يعملون، ومن خالفهم من الكفار يقاتلون، أتراهم ضعفاء؟! بل هم كانوا -والله- الأقوياء، وبهم الخلف الصالح اقتدى، وطريقهم فيه الهدى والاهتداء، قال: إنما تناولها لأنهم أئمة الاقتداء فتناولها مباشرة في حق الضعفاء، فأما في حق أنفسهم فلا، وبيان ذلك أصحاب الصفة.
يريد أن الأنبياء –هذا القائل المدعي الشيخ- يريد أن الأنبياء لا يتناولون أسباباً من أجلهم، وإلا لو كان المقصود هم ما تناولوا الأسباب؛ لأن الله يكفيهم ما يريدون ويحتاجون، وإنما يفعلون الأسباب من أجل الضعفاء ليقتدوا بهم، طيب كبار الصحابة وسادات الأمة، أبو بكر وعمر، هل يصنفون من الضعفاء أو من الأقوياء؟ لا شك أنهم من الأقوياء وليسوا من الضعفاء، من الجلة، من السادة، فليسوا من الضعفاء، وهم يقتدون بنبيهم -عليه الصلاة والسلام- في ذلك، يقول: حتى هؤلاء الأقوياء إنما يعملون من أجل الضعفاء، ويتسلسل الأمر والكلام لا وجه له، بل هم مطالبون ببذل الأسباب كغيرهم.