الثالثة: الأحاديث المروية في نزول هذه الآية، وليس منها شيء يصح، وكان مما تموه به الكفار على عوامهم قولهم: حق الأنبياء أن لا يعجزوا عن شيء فلم يأتينا محمد بالعذاب وقد بالغنا في عداوته؟ وكانوا يقولون أيضاً: ينبغي ألا يجري عليهم سهو وغلط، فبين الرب -سبحانه- أنهم بشر والآتي بالعذاب هو الله تعالى على ما يريد، ويجوز على البشر السهو والنسيان والغلط إلى أن يحكم الله آياته وينسخ حيل الشيطان، روى الليث عن يونس عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال: قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [(١) سورة النجم] فلما بلغ {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى* وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [(١٩ - ٢٠) سورة النجم] سها فقال: إن شفاعتهم ترتجى، فلقيه المشركون والذين في قلوبهم مرض، فسلموا عليه وفرحوا فقال:"إن ذلك من الشيطان" فأنزل الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} [(٥٢) سورة الحج] الآية، قال النحاس: وهذا حديث منقطع، وفيه هذا الأمر العظيم، وكذا حديث قتادة، وزاد فيه:"وإنهن لهن الغرانيق العلا" ...
قصة الغرانيق قصة مشهورة تذكر في تفسير هذه السورة، وتداولها المفسرون، وجزم جمعٌ من أهل التحقيق بأنها باطلة، وأنها لم ترد من وجهٍ يثبت، فالمعول عليه أن هذه القصة لا تصح، وابن حجر ذكر لها أسانيد وقال: إن هذه الأسانيد تدل على أن لها أصلاً، وأنه ثبت شيءٌ منها، وإن لم تكن بالصورة التي وردت المقصود أنه ثبت شيءٌ من ذلك لكثرة أسانيدها، والشيخ محمد بن عبد الوهاب ذكرها في مختصر السيرة، المقصود أن العلماء منهم من يثبتها لكثرة طرقها، ومنهم من يحكم ببطلانها، وهذا هو الأنسب، وهذا هو اللائق بعصمة النبي -عليه الصلاة والسلام- لا سيما فيما يتعلق بالتبليغ؛ لأن هذا الكلام على هذه الرواية جرى على لسانه -عليه الصلاة والسلام- بين آيتين من القرآن، منهم من يقول: إن الشيطان تكلم بهذا الكلام في أثنائه تحين سكوت النبي -عليه الصلاة والسلام- بين الآيتين فتكلم بها، والقرآن محفوظ حفظه الله -جل وعلا- تكفل بحفظه بلا زيادةٍ ولا نقصان.