وضرب الشيخ صاحب الدعوة الوهابية الأمثال على تجرده ونزاهته، وعلى أنه لم يرد من دعوته سوى وجه الله وحده، وإصلاح حال أمته، والنهوض بها، وإنقاذها من ظلمات الجهالة التي كانت تغمرها، وتقيمها وتقعدها، فاعتزل السياسة سنة ١١٨٧ بعدما استقرت الدعوة واستقام عودها، وزال كل خطر يهددها، وتضاعف عدد أنصارها المؤمنين بها، وعكف على عبادة ربه، يشكره على نصره وتأييده، وابتعد عن الدنيا وزخارفها، لا يبغي حكما ولا سلطانا ولا مالا ولا نسبا، وظل هذا شأنه يصوم النهار ويقوم الليل عابدا مجتهدا، خالصا لله مخلصا، حتى وافته منيته سنة ١٢٠٦، فذهب إلى لقاء ربه راضيا مرضيا بما قدم وأسلف.
على أن هذا لا يمنعنا من القول بأن الدعوة الوهابية نفسها لم تلق من عناية علماء نجد وأدبائها وكتابها ما كان يجب أن تلقاه، ولعل مصدر ذلك انزواء نجد في قلب الجزيرة سحابة القرنين الماضيين، وصعوبة الاتصال بها، وقلة وسائل النشر لديها، على أن هذا كله زال الآن، فتيسرت الأسباب، وفتحت الأبواب، وازدهرت رياض العلم، مما نرجو أن يضاعف اهتمامهم، ويشحذ عزائمهم، فسيرة الشيخ محمد من أحفل السير بالعظات، ومن أجدرها بالدرس، لها جوانبها المحددة، ومصادرها الكثيرة، يضاف إلى ذلك كله أن الشيخ خلف ثروة عظيمة وكنوزا حافلة من الكتب والمؤلفات في حاجة إلى إعادة الطبع والترجمة إلى اللغات الأجنبية ليعم نفعها، ويستفيد الناس منها، ويغترفوا من بحر فضلها " (١) .
ثم قال مبينا أثر التمسك بالشريعة الإسلامية في الحياة العامة، وأثر الانصراف عنها:
" إن العقيدة الراسخة عند النجديين - أمرائهم وعلمائهم - أن الله مكنهم في جزيرة العرب، وأن سلطانهم في تلك الجزيرة لإحياء معالم الشريعة، وإظهار دين الله، وجعل سلطان التوحيد في الجزيرة هو السلطان الأول، وإزالة كل أثر من آثار الشرك، ولقد قال الإمام سعود في خطبته بعد دخول مكة سنة ١٢١٨ هـ " إنا كنا من أضعف العرب، ولما أراد الله ظهور هذا الدين دعونا إليه، وكل يهزأ بنا ويقاتلنا ".
وكان الملك عبد العزيز - رحمه الله - في كل مناسبة يشير إلى هذا، ذاكرا فضل الله
(١) هذا هو كتاب سيرة الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب (٩ - ١١) .