(وقال آخرون وهو الصحيح: إنَّ العقل هو الِعلم بالمدْركات الضرورية)(١). انتهى
والكلام فيه متسع لا نُطَوِّل به، ففيما قُلناه كفاية.
وقولي:(فَقِيهُ نَفْسٍ) إشارة إلى أن الفقيه الذي اتصف بهذه الأوصاف وبصفة الفقه حتى صار بذلك مجتهدًا ليس المراد به أن يحفظ الفقه، بل يكون فقيه النفس، أي: له قدرة على استخراج أحكام الفقه مِن أدلتها كما يُفْهم ذلك مِن تفسير "الفقه" في أول الكتاب بأنه "العِلم بالأحكام الشرعية الفرعية المكتسب من أدلتها التفصيلية"، فَتَضمَّن ذلك أنه لا بُدَّ أن يكون عنده سجية وقوة يَقْتدِر بها على التصرف بالجمع والتفريق والترتيب والتصحيح والإفساد، فإنَّ ذاك ملاك صنعة الفقه. فلذلك قال الأستاذ أبو إسحاق: إنَّ مَن اتصف بالبلادة والعجز عن التصرف لم يكن مِن أهل الاجتهاد.
وما أحسن قول الغزالي: إذا لم يتكلم الفقيه في مسألة لم يسمعها ككلامه في مسألة سمعها، فليس بفقيه. حكاه الهمداني في "طبقات الحنفية".
واعلم أن التعبير بِ "فقيه النفس" ربما يُفْهَم منه الإشعار بأنَّ مُنكر القياس لا يُعَد مجتهدًا ولا يُعتبر وفاقه أو خِلافُه في الإجماع. وهو ما عليه القاضي وإمام الحرمين، وقالا: إنهم في الشرح كمنكري البداية في العقول.
ولكن ظاهر كلام أصحابنا في الفروع أنهم مجتهدون ومُعْتَدٌّ بخلافهم ووفاقهم؛ ولهذا يذكر الشيخ أبو حامد والماوردي والقاضي أبو الطيب وغيرهم خِلافَهم في كتب الفقه، ويُحاججونهم.
وثالثها: إن أنكروا القياس الجِلي لم يُعتد بهم، وإلا اعْتُد. وهو ظاهر كلام ابن الصلاح وغيره، وهو المختار.
(١) أدب الدنيا والدين (ص ٦ - ٧)، ط: دار الكتب العلمية.