وإنْ كانوا لا ينفونه أصلًا وإنما يقولون: لا يقع إلا وسيلة لترك الحرام، فيكون واجبًا، حتى إنَّ القاضي في "مختصر التقريب" نقل عن الكعبي أنَّ المباح مأمور به دُون أمر الندب، والندب دُون أمر الإيجاب، وقال: إنه وإنْ أَطْلَق الأمر على المباح فلا يسمى المباح واجبًا ولا الإباحة إيجابًا. وتبعه على ذلك الغزالي في "المستصفى" وابن القشيري في أصوله.
وبالجملة فقد أقاموا على هذه الدعوى دليلا قويًّا، فقالوا: فِعل المباح يُترك به الحرام، وكُل ما تُرك به الحرام واجبٌ، فَفِعل المباح واجب.
بيان الصغْرَى: أنَّ فاعل المباح لا يَكون فاعلًا للحرام في آنٍ واحد؛ لِئلَّا يجتمع الضدان، فهو تارِكٌ له.
وبيان الكبرى مِن قاعدتين، إحداهما: مقدمة الواجب واجبة، والثانية: أنَّ تحريم الشيء إيجابٌ لأحد أضداده كما سيأتي بيانها.
وقد أُجِيبَ عن هذا الدليل بمنع الصغرى؛ لأنَّ تَرْك الحرام لا ينحصر في كَوْنه ضمن المباح عينًا، بل بواحدٍ مِن نوعه أو بواحدٍ مِن نوع المندوب أو مِن نوع الواجب أو نوع المكروه، بل وبواحدٍ مِن نوع الحرام غيره يحصل به ترْكُه.
وهو معنى قولي:(وَذَا جلي في الْكُلِّ). أَيْ: في كل الأحكام، حتى في الحرام باعتبار فِعل حرام آخَر، ولا يضر ذلك لِكَوْنه مِن جهتين كما ستعرفه.
وضعَّف الآمدي وابن برهان وابن الحاجب وغيرهم هذا الجواب بأنه لم يخرج عن كَوْنه واجبًا، غايته أنه ليس واجبا عينًا، بل على التخيير؛ والواجب المخَيَّر بفعله يتعين للوجوب قطعًا كما سبق، فلا يتصور وقوع مباح إلا واجبًا، سواء قُلنا في المخير:(الكل واجب) أو (واحد لا بِعَيْنه)، ولو قُلنا: إنَّ محل الوجوب لا تخيير فيه، ومحل التخيير لا وجوب فيه؛ لأنَّه بَعْد الفعل ينطلق عليه اسم "الواجب"، فلا يُتصور حينئذ وقوع مباح إلا واجبًا، وهو مُدَّعَى الخصم.