للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

والتي كانت لا تزال تثق في قريش وحكمتها، وكانت مقالة قريش في القرآن تصاغ في أسلوب مؤكد، انظر إلى قولهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ} ، وكيف بنيت العبارة هذا البناء الصلب من استعمال اسم الإشارة، ومجيئها على أسلوب القصر، والإخبار عنه بأنه إفك.

ومن الواضح في تاريخ الدعوة أن مثل هذه المفتريات على النبي، والقرآن كان يذيعها وجهاء قريش بين وفود القبائل الوافدة عليهم في التجارة، ومواسم الحج؛ لأنهم كانوا يهتمون جدا بحصار الدعوة داخل مكة للقضاء عليها فيها وكان تفلت أخبارها خارج الحدود ومما يفزعهم، ثم إنهم كانوا يستشعرون بأن أساطير الأولين لم تكن من معارفهم الذائعة، ومن هنا احتاجوا إلى توكيدها، وانظر إلى قولهم: اكتتبها، وما فيه من المعاناة وهو واقع بدل كتبها كما تقول استكب الماء بدل سكبه واصطبه بدل صبه، هكذا قال الزمخشري، ثم انظر إلى حذف المبتدأ، وكيف أشار إلى أنه معروف؛ لأن القول بأنه أساطير مما لا يتوجه إلا إليه، والخلاصة أن التقديم هنا، أعني في قوله: فهي تملى كان ضرورة بلاغية لورود الكلام في سياق يحرص على التوكيد، ولتتلاءم مع المقالة الأولى في هذا؛ ولأنه من الأخبار الغريبة فلا بد فيه من الاحتفال والاهتمام، ولهذا كان خلاف التوكيد مما ينبو عن المعنى، كما قال عبد القاهر.

أما الآية الثالثة: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} ، أي: يحبس أولهم على آخرهم بإيقاف أولهم حتى يحلق به آخرهم -جاء قوله: فهم يوزعون، بتقديم المسند إليه ليؤكد هذا الخبر الغريب، فتأنس به النفوس؛ لأن حشر الإنس والجن، والطير على هذه الهيئة من الإيزاع والتداخل أمر غريب تحتاج النفوس إلى ما يؤنسها به، ويقرره عندها، فلو قال: يوزعون هكذا مرسلًا من غير توكيد لما كان التركيب ملائمًا لحال النفس المتلقية لمثله، والتي تحتاج كما قلنا إلى ما يؤنسها بالأمر الغريب، وقد ذكرنا أن التوكيد من أدق العناصر البلاغية، وأشفها في مراقبة أحوال النفس

<<  <   >  >>