إذاً: البدل لا بُدَّ أن يكون مقصوداً، فالمُبْدَل منه إن لم يكن مقصوداً البتة، وإنما سبق اللسان إليه فهو بدل الغلط .. بدلٌ سببه الغلط، يعني: من إضافة المُسبَّب إلى السبب، بدل الغلط أي: بدلٌ سببه الغلط، لأنه بدلٌ عن اللفظ الذي هو غلط، لا أنه نفسه غلط: رأيت كلباً حماراً، هو أراد أن يقول: حماراً فأخطأ في اللسان فقال: كلباً، إذاً: حماراً نقول: هذا بدل غلط، هو البدل المقصود الآن بالحكم، والسابق هو الذي وقع غلطاً، إذاً: ما سبب المجيء بـ حماراً هذا؟ الغلط السابق، وليس هو عينه غلطٌ في نفسه. فهو بدل الغلط، أي: بدلٌ سببه الغلط، لأنه بدلٌ عن اللفظ الذي هو غلط، لا أنه نفسه غلط، هذا إن لم يكن مقصوداً بالأصل.
وإن كان مقصوداً فإن تبيَّن بعد ذكره فساد قصده فبدل النسيان، يعني: أراد أن يُخبِر عن شيء، فأخبر به ثم أراد أن يُغيَّر تلك الإرادة الجازمة التي عَبَّر بها عن الأول: تصدقت بدينارٍ ردهمٍ، لمَّا قال: دينار تبين فساد قصده، فقال: درهمٍ، لما قال بدينار بعد لفظه بدا أن ينظر في نيته، فإذا بها فاسدة، فقال: درهمٍ، حينئذٍ يكون الثاني كالأول مقصوداً، كلٌ منهما مقصود، إلا أن الثاني يكون بدل نسيان. وإن كان مقصوداً فإن تَبيَّن بعد ذكره فساد قصده فبدل نسيان، أي: بدل شيءٍ ذُكِرَ نسياناً، ويكون كلٌ منهما صحيح، وكل منهما واقع، إلا أنه أراد أن يَعدِل عن الأول لسوء قَصْدٍ، سواء كان لله أو غيره، والثاني يكون هو المقصود بالبدل .. هو المقصود بالإسناد.
وقد ظهر أن الغلط مُتَعلِّق باللسان، والنسيان مُتَعلِّق بالجنان، يعني: إن كان الخطأ مُتَعلِّقاً باللسان فهو بدل الغلط، وإن كان مُتَعلِّقاً بالقلب فهو النسيان، وإن كان قصد كل واحدٍ من المُبْدَل والمُبْدَل منه فبدل الإضراب، ويُسمى أيضاً: بدل البداء، مثل: أكلت خبزاً لحماً، قَصَدْتَ أولاً الإخبار بأنك أكلت خبزاً، ثم بدا لك أن تُخبِر أنك أكلت لحماً أيضاً، فقلت: أكلت خبزاً لحماً، فالثاني بدل إضراب، كأنك أضربت عن الأول، فهو في معنى (بلْ) كأنه قال: أكلت خبزاً بل لحماً، وكلٌ منهما مقصودٌ.
قال هنا الشارح: البدل المباين للمبدل منه وهو المراد بقوله: (أَوْ كمَعطُوفٍ بِبَلْ)، وهو على قسمين:
أحدهما: ما يُقصَد متبوعه كما يقصد هو، كلٌ منهما مقصود: المبدل والمبدل منه، وهو يُسمى: بلد الإضراب، لأنه بمعنى (بلْ)، وسبق معنا (بلْ) الإضرابية.
وبدل البداء، بداء كسحاب أي: الظهور، سُمي به لأن المُتَكلِّم بدا له ذكره بعد ذكر الأول قصداً، يعني: قصد الثاني كما قصد الأول، أكلت خبزاً لحماً، قصدت أولاً الإخبار بأنك أكلت خبزاً، وهو حقيقة أيضاً، ثُمَّ بدا أنك تخبر أنك أكلت لحماً أيضاً، يعني: أضربت عن ذلك في اللفظ فقط، وأمَّا في القصد فهو مراد، وكلٌ منهما مراد. دون أن تسلُب الحكم عن الأول: أكلت خبزاً لحماً، أخبرت عن الأول، ثُمَّ ظهر لك وبدا لك أن تخبر بالثاني، فقلت: أكلت خبزاً لحماً.