والأول ما حكمه؟ كما هو باقٍ مُخبرٌ به، حينئذٍ أكلت اثنين .. شيئين: خبزاً ولحماً، وحينئذٍ صار الإبطال الذي هو معنى (بلْ) في اللفظ فحسب، وأمَّا في القصد فلا، ولذلك عَبَّر الناظم هنا بالقصد:(وَذَا لِلاِضْرَابِ اعْزُ إِنْ قَصْدَاً) فالعبرة حينئذٍ بالمقصد، وهو المراد بقوله:(وَذَا لِلاِضْرَابِ اعْزُ إِنْ قَصْدَاً صَحِبْ) أي: البدل الذي هو (كمَعطُوفٍ بِبَلْ) انسبه للإضراب، فقل: بدل إضراب، إن قُصِدَ مبتوعه كما يُقصَدُ هو، كلٌ منهما مقصود: المبدل والمبدل منه.
الثاني: ما لا يُقصَد متبوعه، بل يكون المقصود البدل فقط، وإنما غَلِط المُتَكلِّم فذكر المبدل منه، ويُسمى: بدل الغلط والنسيان، وأكثر النحاة على هذا: أن بَدَلَ الغلط والنسيان شيءٌ واحد، وابن هشام تَكلَّف، حاول أن يُفرق بينهما، والفرق بينهما عسير، والقول: بأن ذاك في الجنان وذاك في اللسان، هذا يحتاج إلى إثبات.
نحو: رأيت رجلاً حماراً! رأى شبحاً من بعيد .. رأيت رجلاً، ثُمَّ قرُب منه قال: حماراً، يعني: ظهر له أنه ليس برجل، أو سبق له في اللسان فأراد أن يقول: رأيت حماراً، فقال: رأيت رجلاً، ثم قال: حماراً، يعني: يحتمل هذا ويحتمل ذاك. أردت أن تخبر أولاً أنك رأيت حماراً فغلطت بذكر الرجل، وهو المراد بقوله:(وَدُونَ قَصْدٍ غَلَطٌ بِهِ سُلِبْ) أي: إذا لم يكن المبدل منه مقصوداً فيسمى البدل بدل غلط، لأنه مزيلٌ للغلط الذي سبق، وهو ذكر غير المقصود.
إذاً: هذه أربعة أنواع: بدل مطابق .. كل من كل، وبدل جزء من كل، أو بدل بعض من كل، وبدل اشتمال، وبدل الإضراب والغلط، وكلاهما في مرتبة واحدة، زاد بعضهم: بدل كل من بعض عكس، بدل بعض من كل: أكلت الرغيف ثلثه، هذا بدل جزء من كل، وهل يرد بدل كل من بعض؟
جماهير النحاة على المنع: أنه لا يأتي في لسان العرب، لكن بعضهم زاده واستدلوا بقول الشاعر:
(رَحِم اللهُ أَعْظُماً دَفَنُوهَا .. طَلْحَةَ)، طَلْحَةَ قالوا: هذا بدل كل من بعض، لأن الأعظُم جمع عظمٍ، وهو جزء من طلحة، طلحة: عظمٌ ولحمٌ، إذاً:(رَحِم الله أعظماً طلحة الطلحات)، (طلحة) هذا بدل كل من بعضٍ.
ومَثَّل له السِيُوطي بقوله تعالى:((فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً * جَنَّاتِ عَدْنٍ)) [مريم: ٦٠ - ٦١] فأولئك يدخلون الجنة: جنة واحدة، قال: جنات عدنٍ، هذا بدل كل من بعض، جنات متعددة والجنة هذه واحدة، لكن هذا يمكن أن يُجاب عنه: بأن الجنة صارت اسم جنس هنا، دخلت عليه (أل) فتعم، حينئذٍ يكون بدل كل من كل، لكن في الأول هو في اللفظ واحد، ولكنه في المعنى متعدد، على كلٍ هو فرح بهذه الآية: فأولئك يدخلون الجنة .. جنات عدنٍ. وفائدته تقرير أنها جنات كثيرة لا جنة واحدة.
إذاً: هذا البدل الخامس وهو بدل بعض من كل، إن قيل به، ومثل هذا البيت لا يصلح أن يكون مثبتاً لقاعدة عامة، وإلا الأصل المنع، لأنه يمكن تأويله.