الثاني قال: مَعَ بَقَا النَّفْي، يعني نفي الخبر أن يبقى على أصله، فلا ينتقض، ومتى ينتقض؟ إذا اقترن الخبر بإلا؛ لأن الأصل في إلا أنه يثبت لما بعدها نقيض حكم ما قبلها، وإذا كان ما قبلها منفياً حينئذٍ نقيض حكم ما قبلها ثابت لما بعد إلا وهو الإيجاب، وشرط إعمال (ما) في اسمها وخبرها أن يكونا منفيين، فحينئذٍ صار الاسم منفياً والخبر مثبتاً، وهذا يبطل اختصاصها بالنفي.
ألا ينتقض النفي بـ: إلا -يعني: نفي خبرها- فلو كان النفي بغير إلا لم يبطل عمل (ما) نحو: ما زيد غير شجاع، ما زيد إلا قائم. نقول هذا باطل، يعني عملها مبطل، لماذا؟ لأن إلا يثبت لما بعدها نقيض حكم ما قبلها، وشرط إعمال (ما) أن يكون اسمها وخبرها منفيين، فإذا أثبت أحدهما ونفي الآخر انتقى شرط العمل، فلا يجوز نصب قائم كقوله تعالى:((مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا)) [يس:١٥] أَنْتُمْ مبتدأ، وبَشَرٌ خبر، ومَا هذه نقول: حجازية في الأصل لكنها ملغاة، ((وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ)) [الأحقاف:٩] خلافاً لمن أجازه.
جمهور البصريين على أنه إذا انتقض نفي خبر (ما) بـ (إلا) وجب رفع الخبر مطلقاً، وذهب يونس بن حبيب إلى أنه يجوز نصب الخبر حينئذٍ مطلقاً، وذهب الفراء إلى جواز نصب الخبر حينئذٍ بشرط كونه وصفاً نحو: ما زيد إلا قائماً، وذهب جمهور الكوفيين إلى جواز نصبه حينئذٍ بشرط كون الخبر مشبهاً به نحو: ما زيد إلا أسد، والصواب هو الأول: أنه ينتقض مطلقاً؛ لأن شرط إعمال (ما) حملها على (ليس) النافية بجامع النفي، حينئذٍ يشترط أن يكون الاسم منفياً والخبر منفياً، فإذا لم ينف واحد منهما حينئذٍ حكمنا على (ما) بأنها ملغاة.
ثالثاً قال: وَتَرْتيبٍ زُكِنْ، هذا الشرط ثالث وهو أن يكون الاسم مقدماً على الخبر.
وَتَرْتيبٍ زُكِنْ: يعني علم، علم من أين؟ من الباب السابق أن المبتدأ حقه التقديم، والخبر حقه التأخير، إذاً يلتزم هذا الترتيب، فإن لم يلتزم بأن قدم الخبر على الاسم ولو كان ظرفاً أو جاراً ومجروراً ألغي عمل (ما) هذا هو الأصل؛ لأنها ضعيفة، (ما) في نفسها ضعيفة، حينئذٍ الأصل في الضعيف ألا يتصرف فيه.
وَتَرْتيبٍ زُكِنْ: يعني علم، ألا يتقدم خبرها على اسم مطلقاً، ولو كان ظرفاً أو جاراً ومجروراً، لذلك الناظم أطلق قال: وَتَرْتيبٍ زُكِنْ، فعلمنا أنه يرى أن الظرف لو وقع خبراً لا يجوز أن يتقدم على اسم (ما)، وكذلك لو وقع ظرفاً، فالكلام عامٌ في النظم.
مذهب جمهور النحاة أنه لو تقدم الخبر على الاسم بطل العمل مطلقاً، سواء كان مفرداً نحو: ما قائم زيد، أم ظرفاً نحو: ما عندك زيد، أو جاراً ومجروراً نحو: ما في الدار زيد، وهذا هو الأصل وهو الصحيح؛ لأن (ما) الأصل فيها عدم العمل، فما سمع يبقى على الأصل ولا نتصرف فيه.
وذهب الفراء إلى أن تقديم الخبر لا يبطل العمل مطلقاً، هذا من باب الاجتهاد.
وذهب ابن عصفور إلى التفصيل: إلى أن الظرف والجار والمجرور لا يبطل العمل، استثنى الجار والمجرور؛ للقاعدة السابقة أنهم يتوسعون في الظروف والمجرورات ما لا يتوسعون في غيره، وما عداه يبطل، ووجهه أن الظرف والجار والمجرور يتوسع فيهما ما لا يتوسع في غيرهما.