للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ووجدنا بدويًا كربعي بن عامر رضي الله عنه يقول لقائد الفرس: جئنا نخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.

إنهم فتح جديد للعالم وحضارة جديدة أنعشت الإنسانية ورفعت مكانتها، لأن الأمة الإسلامية كانت في مستوى القرآن الكريم، والحضارة الإسلامية إنما جاءت ثمرة لبناء القرآن للإنسان (١).

من ثمارهم تعرفونهم:

لقد أدركت البشرية، وسجَّل التاريخ حجم التغيير الذي حدث للصحابة وذلك من خلال رصد أعمالهم, التي لا يمكن أن تحدث من أُناس عاديين، فهي أعمال فوق طاقة البشر، ومما يدعو للدهشة أن هذه الأعمال لم تكن قاصرة على عدد محدود من الصحابة, بل كانت سمتًا عامًا لهم جميعًا: رجالاً ونساء ... شبابًا وشيبًا.

فهذه امرأة تدفع إلى ابنها يوم أحد السيف، فلم يُطق حمله، فماذا فعلت؟!

هل فرحت وحمدت الله على السلامة وعادت به إلى دارها؟!

لا، لم تفعل ذلك، بل أحضرت نسعة (سير مضفور) فشدت به السيف على ساعد ابنها، ثم أتت به النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله هذا ابني يقاتل عنك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أي بني احمل ههنا، أي بني احمل ههنا، فأصابته جراحة، فصُرع فأُتي به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أي بني لعلك جزعت؟ قال: لا يا رسول الله. (٢)

وعندما أراد النبي صلى الله عليه وسلم الخروج إلى تبوك دعا الناس للإنفاق وتجهيز الجيش، فتسابق الصحابة إلى إخراج الكثير والكثير من الأموال وكل ما يحتاجه الجيش، فوجد رجلاً من الأنصار اسمه الحجاب ويكنى أبو عقيل أنه لا يملك شيئًا ينفقه، فماذا يفعل وهو يريد أن يساهم في هذا الجهاد، ويُري الله من نفسه خيرًا؟

فكر وفكر فهداه الله إلى شي عجيب: لقد ذهب وأجَّر نفسه (عمل بالأجرة) عند البعض, وكان العمل هو جر الجرير (الحبل) على ظهره, أما الأُجرة فكانت صاعين من تمر، فترك صاعًا لأهله، وذهب بالآخر لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: يا رسول الله ما لي من مال غير أني أجرت نفسي من بني فلان، أجُرُ الجرير في عنقي على صاعين من تمر، فتركت صاعًا لعيالي وجئت بصاع أقربه إلى الله تعالى .. (٣)

فكان وأمثاله ممن قال الله فيهم {وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ} [التوبة:٧٩].

ولما نزلت {مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا} قال أبو الدحداح: يا رسول الله، إن الله يريد منا القرض؟ قال: «نعم يا أبا الدحداح» قال: أرني يدك، فناوله يده، قال: قد أقرضت ربي حائطي (بستان) - وحائطه فيه ستمائة نخلة - فجاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه وعيالها، فنادى: يا أم الدحداح، قالت: لبيك، قال: اخرجي فقد أقرضته ربي» (٤).

وفي رواية: يا أم الدحداح، اخرجي من الحائط فإني قد بعته بنخلة في الجنة؟

فماذا قالت زوجته؟ هل لامته وعاتبته على فعله؟ هل قالت له: وأين سنذهب، لقد أفقرتنا وأفقرت عيالنا؟!!

لا، لم تقل له ذلك، بل قالت: ربح البيع (٥).

وإن تعجب فاعجب من هذا الموقف:

أخرج ابن سعد في طبقاته عن جعفر بن عبد الله أنه لما كان يوم اليمامة واصطف الناس للقتال كان أول الناس جُرح أبو عقيل الأنيفي، رُمي بسهم فوقع بين منكبيه وفؤاده فَشَطب في غير مقتل، فأخرج السهم ووهن له شقّه الأيسر لما كان فيه، وهذا أول النهار، وجُرَّ إلى الرّحل، فلما حمي القتال وانهزم المسلمون وجازوا رحالهم وأبو عقيل واهن من جُرحه سمع معن بن عدي يصيح بالأنصار: الله الله والكَرَّة على عدوكم.


(١) كيف نتعامل مع القرآن, ص (٣٠).
(٢) كنز العمال ١٠/ ٤٣١.
(٣) الدر المنثور ٣/ ٤٧٢.
(٤) حياة الصحابة ٢/ ٢٣.
(٥) المصدر السابق.

<<  <   >  >>