للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مطاردة التتار لمحمد بن خوارزم وفراره منهم]

وأما جنكيز خان لعنه الله فقد استقر في سمرقند وأعجبته المدينة العملاقة التي لم ير مثلها قبل ذلك، ثم إن أول شيء فكّر فيه هو قتل رأس الدولة الخوارزمية؛ لأنه لو قتل هذا الرأس فسيسهل عليه بعد ذلك احتلال البلد دون خوف من تجميع الجيوش ضده، فأرسل عشرين ألفاً من فرسانه يطلبون محمد بن خوارزم زعيم البلاد، وقال لهم: اطلبوا خوارزم شاه أينما كان ولو تعلق بالسماء، وكونه أرسل عشرين ألف جندي تتري فقط لهذه المهمة الكبيرة فيه إشارة واضحة جداً إلى استهزائه بـ محمد بن خوارزم وأمته؛ لأن هذا الرقم الهزيل لهذه الكتيبة التترية الصغيرة، ستدخل في أعماق الملايين المسلمة وهي لا تقارن بهم بأي حال.

فانطلق الفرسان التتار إلى مدينة أورجندة العاصمة مباشرة حيث يستقر محمد بن خوارزم شاه، وكانت تقع على الشاطئ الغربي من نهر جيحون -واسمه الآن نهر أموداريا- فجاء جنود التتار من الجانب الشرقي للنهر، وفصل النهر بين الفريقين، وتماسك المسلمون لعلمهم أن النهر يفصل بينهم وبين التتار، وأن التتار ليس معهم سفن.

فأخذ التتار في إعداد أحواض خشبية كبيرة ثم ألبسوها جلود البقر حتى لا يدخل فيها الماء، ثم وضعوا في هذه الأحواض سلاحهم وعتادهم ومتعلقاتهم، ثم أنزلوا الخيول إلى الماء -والخيول تجيد السباحة- وربطوا الأحواض بأذنابها، فأخذت الخيول تسبح وخلفها الأحواض الخشبية بما فيها من سلاح وغيره، وبهذه الطريقة عبر جيش التتار نهر جيحون الكبير، ولا ندري أين كانت عيون الجيش الخوارزمي المصاحب لـ محمد بن خوارزم شاه؟ وفوجئ المسلمون في مدينة أورجندة بجيش التتار إلى جوارهم، ومع أن أعداد المسلمين كانت كبيرة جداً، إلا أنهم كانوا قد ملئوا من التتار رُعباً وخوفاً، وما تماسكوا إلا لاعتقادهم أن النهر الكبير يفصل بينهم وبين جيش التتار، أما وقد أصبح التتار على مقربة منهم فلم يُصبح أمامهم إلا طريق الفرار، وكما يقول ابن الأثير رحمه الله: ورحل خوارزم شاه لا يلوي على شيء في نفر من خاصته، فقد جمّع أقاربه ومحبيه وعائلته واتجه إلى نيسابور، وهي في إيران الآن.

فانتقل من دولة إلى دولة، وأما الجند النظاميون فقد تفرق كل منهم في جهة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأما التتار فكانت لهم مهمة محددة معروفة، البحث عن محمد بن خوارزم شاه، ولذلك تركوا أورجندة ولم يدخولها وانطلقوا في اتجاه نيسابور مخترقين الأراضي الإسلامية في عمقها، وهم لا يزيدون عن العشرين ألفاً، وجنكيز خان ما زال مستقراً في سمرقند، وكان من الممكن أن تحاصر هذه المقدمة التترية في أي بقعة من بقاع العالم الإسلامي أثناء تجوالهم في أعماقه، ولكن دب الرعب في قلوب المسلمين، وأخذوا في طريق الفرار اقتداء بزعيمهم الذي ظل يفر من بلد إلى بلد، ومن مدينة إلى مدينة كما نرى، ولم يكن التتار في هذه المطاردة الشرسة يتعرضون لسكان البلاد بالسلب أو النهب أو القتل، فقد كان لهم هدف واضح، فهم لا يريدون أن يضيعوا وقتاً في القتل وجمع الغنائم، وإنما يريدون فقط اللحاق بالزعيم المسلم، ومن باب آخر فإن الناس لم يتعرضوا لهم؛ لئلا يثيروا حفيظتهم فيتعرضون لأذاهم، فكل الناس تفتح لهم الطريق، وهكذا وصل التتار إلى مسافة قريبة جداً من مدينة نيسابور العظيمة وفي فترة وجيزة جداً، ولم يتمكن محمد بن خوارزم شاه من جمع الأنصار والجنود والتتار في أثره، فلما علم بقربهم من نيسابور ترك المدينة واتجه إلى مدينة مازندران -وهي مدينة في إيران الآن أيضاً- فلما علم التتار بذلك لم يدخلوا نيسابور بل اتجهوا خلفه مباشرة، فترك مازندران إلى مدينة الري -وهي أيضاً في إيران- ثم إلى مدينة همذان -وهي أيضاً في إيران- والتتار في أثره، ثم عاد إلى مدينة مازندران مرة أخرى في فرار مخز فاضح، ثم اتجه بعد ذلك إلى مدينة طبرستان، وهي مدينة على ساحل بحر الخزر -وهو بحر قزوين الآن- فجد هناك سفينة فركب فيها، وهربت به في عمق البحر، وجاء التتار ووقفوا على ساحل البحر ولم يجدوا ما يركبوه، فنجحت خطة فرار الزعيم المسلم الكبير محمد بن خوارزم نجاحاً مبهراً، حتى وصل في فراره الفاضح إلى جزيرة في وسط بحر قزوين، ورضي بالبقاء فيها في قلعة كانت هناك في فقر شديد وحياة صعبة، وهو الملك الذي ملك بلاداً شاسعة وأموالاً لا تُعد، ولكنه رضي بذلك لكي يفر من الموت، والموت لا يفر منه أحد، وما هي إلا أيام ومات محمد بن خوارزم شاه في داخل القلعة في هذه الجزيرة وحيداً طريداً شريداً فقيراً، حتى أنهم لم يجدوا ما يكفنوه به، فكفنوه في فراشه الذي كان ينام عليه، واستمعوا إلى قول الله عز وجل: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:٧٨]، ولو كنتم في هذه القلعة في وسط البحر، وليس بأيد التتار، ولكن الموت يأتي بغتة، و

<<  <  ج: ص:  >  >>