في يوم (١٢) محرم سنة (٦٥٦هـ) ظهر جيش هولاكو فجأة أمام الأسوار الشرقية للمدينة العظيمة بغداد، وبدأ ينصب معدات الحصار الثقيلة جداً حول المدينة، وجاء كذلك كتبغا بالجناح الأيسر من الجيش ليحيط بالمدينة من الناحية الجنوبية.
ارتاع خليفة المسلمين، وعمل اجتماعاً عاجلاً طارئاً جمع فيه كبار المستشارين، وكان على رأسهم الوزير الخائن مؤيد الدين العلقمي، فكان رأي مؤيد الدين العلقمي مهادنة التتار وإقامة مباحثات سلام، ولا مانع عنده من كثير من التنازلات، وكان يقول: ليس هناك أمل، والحل الوحيد هو السلام غير المشروط، ولكن الخير لا يعدم في هذه الأمة، فقام رجلان من الوزراء، وهما مجاهد الدين أيبك وسليمان شاه يشيران على الخليفة بحتمية الجهاد، وهذه الكلمة كانت جديدة تماماً على هذا الجيل من الدولة العباسية، وجاءت الإشارة إليها متأخرة جداً، فقد انتهى زمن الإعداد ووقت الاختبار، ولكن لعله يحرك جيشاً، وكان الخليفة محتاراً، فهواه مع كلام مؤيد الدين العلقمي، فهو ليس قادراً على الحرب، وعقله مع كلام مجاهد الدين أيبك وسليمان شاه؛ لأن تاريخ التتار كله لا يبشر بأي فرصة للسلام، كما أنه كان يسمع من أجداد أجداده أن الحقوق لا توهب إنما تؤخذ، فكان الخليفة محتاراً متردداً هيناً ليناً ضعيفاً، والجهاد لا ينفع أبداً مع هذه الصفات، فالجهاد ليس قراراً عشوائياً، ولا يوجد مجاهد بالصدفة أبداً، فالجهاد إعداد وتربية وتضحية مع الإيمان، فهو ارتقاء إلى الأعلى، حتى الوصول إلى ذروة سنام الإسلام، فهو ليس على سبيل التجربة نجرب لنجاهد، ما ينفع هذا الكلام.
فسمح الخليفة للمرة الأولى تقريباً في حياته باستخدام الجيش، فكانت هذه هي المرة الأولى التي يحارب فيها هذا الجيل من الجنود، وأول مرة ينتقل إلى الأعمال العسكرية، فقد انتقل من الأعمال المدنية في الزراعة والصناعة وزراعة الخيار والطماطم إلى الأعمال العسكرية، فخرجت فرقة هزيلة من الجيش العباسي على رأسها مجاهد الدين أيبك لتلاقي جيش هولاكو المهول، فخرجوا من أسوار بغداد في اتجاه الشرق لمقابلة جيش هولاكو، ثم سمعوا بقدوم جيش بيجو من الشمال، وحتى لا تحاصر بغداد أيضاً من الشمال والغرب فتصبح مطوقة تماماً، عدل مجاهد الدين أيبك إلى محاربة جيش بيجو بدلاً من محاربة جيش هولاكو؛ لكي لا تحاصر بغداد من كل الجهات، فانتقل بجيشه الضعيف الهزيل لملاقاة جيش بيجو في الشمال، والتقى معه في منطقة الأنبار، التي شهدت انتصاراً خالداً قبل أكثر من (٦٠٠) سنة على يد البطل الخالد خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، وأما في هذه المرة للأسف لم يوجد خالد ولا جيشه، فاستدرج الجيش المسلم في أرض الأنبار وسحق فيها، واستطاع مجاهد الدين أيبك بأعجوبة أن يهرب بفرقة ضعيفة جداً من الجيش الضعيف أصلاً ويعود إلى داخل بغداد، وهلك الجيش العباسي أو معظمه.
وكانت هذه الموقعة الأليمة غير المتكافئة في (١٩) محرم، يعني: بعد أسبوع من ظهور هولاكو أمام الأسوار الشرقية لبغداد.