عند تحليل كل قوة من هاتين القوتين نجد أن مساحة أمة الإسلام في ذلك الوقت تقترب من نصف مساحة الدنيا، فحدود البلاد الإسلامية كانت تبدأ من غرب الصين، وتمتد عبر آسيا وأفريقيا لتصل إلى غرب أوروبا وبلاد الأندلس، فقد كانت مساحتها شاسعة للغاية، ولكن للأسف الشديد كان وضع العالم الإسلامي في ذلك الوقت مؤسفاً جداً، فمع المساحات الواسعة من الأرض، والأعداد الهائلة من البشر، والإمكانيات العظيمة جداً من المال والمواد والسلاح والعلوم إلا أن الفرقة كانت شديدة جداً في العالم الإسلامي، والحالة السياسية لمعظم الأقطار الإسلامية متدهورة تدهوراً كبيراً، والغريب أن هذا الوضع المؤسف كان بعد سنوات قليلة من أواخر القرن السادس الهجري ما بين (٢٠) إلى (٣٠) سنة حيث كانت أمة الإسلام قوية ومنتصرة ومتوحدة ورائدة، ولكن سنة الله الماضية، {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}[آل عمران:١٤٠].
وقد كان العالم الإسلامي في ذلك الوقت عبارة عن كيانات متفرقة: الكيان الأول: كان كياناً كبيراً جداً، ولكنه للأسف الشديد كان ضعيفاً جداً في أوائل القرن السابع الهجري، وهذا الكيان هو الخلافة العباسية.
والخلافة العباسية خلافة قديمة جداً، فقد نشأت بعد سقوط الدولة الأموية سنة (١٣٢هـ)، أي: أن عمرها إلى أوائل القرن السابع الهجري (٥٠٠) سنة تقريباً، وكانت تتخذ من بغداد عاصمة لها، ثم ضعفت الخلافة العباسية جداً في أوائل القرن السابع الهجري، حتى أصبحت لا تسيطر حقيقة إلا على وسط العراق وجنوبه، وكان حول العراق عشرات الإمارات المستقلة استقلالاً حقيقياً عن دولة الخلافة، وإن كانت لا تعلن نفسها كخلافة منافسة للخلافة العباسية، وكانت الخلافة العباسية في ذلك الزمن مجرد صورة خلافة، وليست خلافة حقيقية.
ولكي نفهم معنى خلافة عباسية في ذلك الوقت، فلننظر إلى واقع بريطانيا الآن، فالإنجليز الآن يبقون على ملكتهم كرمز تاريخي فقط، وإلا فهي ليس لها دور يذكر في الحكم، وكذلك أبقى المسلمون في ذلك الزمن على الخليفة العباسي كرمز للمسلمين، وللخلافة العباسية العريقة التي حكمت العالم الإسلامي (٥٠٠) عام، مع أن الخليفة العباسي كان يحكم وسط وجنوب العراق فقط.
وكان يتعاقب على الخلافة العباسية في العراق خلفاء من بني العباس حملوا هذا الاسم العظيم الجليل:(الخليفة)، ولكنهم في هذه الفترة ما اتصفوا أبداً بهذا الاسم، ولا حتى رغبوا في الاتصاف به، إذ لم يكن همهم إلا جمع المال وتوطيد أركان السلطان في هذه الرقعة المحدودة جداً من الأرض، ولم ينظروا نظرة صحيحة أبداً إلى وظيفتهم كحكام، ولم يدركوا أن من مسئولية الحاكم أن يوفر الأمان لدولته، ويقوي جيشها، ويرفع مستوى المعيشة لأفراد شعبه، ويحكم في المظالم، ويرد الحقوق لأصحابها، ويجير المظلومين، ويعاقب الظالمين، ويقيم حكم الله عز وجل في العباد، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويدافع عن كل ما يتعلق بالإسلام، ويوحد الصفوف والقلوب، فهم لم يدركوا أبداً هذه المهام الجليلة للحاكم المسلم، وكان كل ما يريدونه هو الاستمرار أطول فترة ممكنة في الحكم، ثم توريثه لأبنائهم، وتمكين أفراد عائلتهم من رقاب الناس، وكذلك كانوا يحرصون على جمع الأموال الكثيرة، والتحف النادرة، وإقامة الحفلات الساهرة، وسماع الأغاني والموسيقى واللهو والطرب، فحياة الحكام في هذه الفترة كانت حياة لا تصلح أن تكون حياة لفرد من عوام أمة الإسلام، فضلاً عن أن تكون حياة حاكم لأمة الإسلام، فقد ضاعت هيبة الخلافة، وتضاءلت طموحات الخليفة.
هذه هي حالة الخلافة العباسية في أوائل القرن السابع الهجري، كانت تحكم نصف العراق أو ثلثه تقريباً.
الكيان الثاني من العالم الإسلامي: كان متمثلاً في مصر والشام والحجاز واليمن، وقد كانت هذه الأقاليم في أوائل القرن السابع الهجري في أيدي الأيوبيين أحفاد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، ولكن للأسف الشديد هؤلاء الحكام الذين حكموا هذه الأقاليم، لم يكونوا أبداً على شاكلة هذا الرجل العظيم رحمه الله، بل تنازعوا الحكم، وقسموا الدولة الأيوبية الموحدة -التي هزمت الصليبيين في حطين هزيمة منكرة وفتحت بيت المقدس- إلى ممالك صغيرة متناحرة، فقد استقلت الشام عن مصر، وكذلك اليمن والحجاز، بل وانقسمت الشام إلى إمارات متعددة متحاربة، فقد انفصلت حمص عن حلب ودمشق، وفلسطين عن الأردن، ثم ما لبثت الأراضي التي حررها صلاح الدين الأيوبي رحمه الله من أيدي الصليبيين بعد جهد جهيد ودماء كثيرة أن تقع من جديد في أيدي الصليبيين، بعد هذه الفرقة الشنيعة بين المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الكيان الثالث: بلاد المغرب والأندلس، وقد كانت هذه البلاد في تلك الآونة تحت إمرة دولة الموحدين، وكانت هذه الدولة فيما سبق دولة قوية جداً، ومترامية الأطراف، فقد كانت تحكم من ليبيا شرقاً إلى المغرب غرباً، ومن الأندلس شمالاً إلى وسط إفريقيا جنوباً، ثم في أوائل القرن السابع الهجري بدأت في ا