[سحب قوات التتار إلى داخل سهل عين جالوت]
جاء وقت تنفيذ الجزء الثاني من الخطة الإسلامية البارعة، ودقت الطبول دقات معينة؛ لتصل بالأخبار من قطز إلى بيبرس ليبدأ في تنفيذ الجزء الثاني الخطير من الخطة.
وكان الجزء الثاني من الخطة عبارة عن محاولة سحب جيش التتار إلى داخل سهل عين جالوت، ويا حبذا لو سُحب الجيش بكامله! بحيث تدخل قوات التتار في الكمائن الإسلامية تمهيداً لحصارها والقضاء عليها.
وبدأ ركن الدين بيبرس في تنفيذ مهمة صعبة جداً، فكان عليه أن يُظهر الانهزام أمام التتار، ويتراجع بظهره وهو يقاتل، على ألا يكون هذا التراجع سريعاً جداً حتى لا يلفت أنظار التتار إلى الخطة، ولا بطيئاً جداً فتهلك القوة الإسلامية القليلة أثناء التراجع تحت الضغط التتري الرهيب، وهذا الميزان في الانسحاب يحتاج إلى قدرة قيادية فائقة، كما يحتاج إلى رجال أشداء مهرة في القتال، ويحتاج فوق كل ذلك وقبل كل ذلك إلى توفيق من رب العالمين سبحانه وتعالى.
وهذه العوامل بفضل الله كانت متوافرة في هذا الجيش، والمحلل لهذه الخطة يجد أنها نفس الخطة الإسلامية في موقعة نهاوند الشهيرة، التي كانت ضد القوات الفارسية وذلك في سنة (١٩هـ)، وكان يقوم فيها بدور ركن الدين بيبرس من عملية سحب الجيش التتري إلى داخل السهل الصحابي القائد الإسلامي الفذ القعقاع بن عمرو التميمي رضي الله عنه، وكان يقوم بدور قطز رحمه الله الصحابي الجليل والفارس العظيم النعمان بن مقرن رضي الله عنه.
وقام في وقتها القعقاع بن عمرو التميمي بسحب قوات الفرس الرهيبة في الكمين الإسلامي الخطير، الذي قضى على قوات الفرس تماماً، وهنا في عين جالوت استفاد قطز رحمه الله من التاريخ، ومن تجارب المسلمين السابقة، وطبق خطة موقعة نهاوند بحذافيرها.
وبدأ ركن الدين بيبرس في الانسحاب التدريجي المدروس، وكلما رجع خطوة في السهل تقدم جيش التتار مكانها، وقام المسلمون بتمثيلية الانهزام خير قيام، وتحمس كتبغا ومن معه للضغط على المسلمين، وبدءوا يدخلون السهل وبأعداد كبيرة، ومر الوقت ببطء على الطرفين، ولكن في النهاية دخل جيش التتار بكامله إلى داخل سهل عين جالوت, وانسحب ركن الدين بيبرس بمقدمة الجيش إلى الناحية الجنوبية من سهل عين جالوت، وفي غضون حماسة كتبغا للقضاء على جيش المسلمين لم يترك كتبغا كما أشرنا قبل ذلك أياً من قواته الاحتياطية خارج السهل لحماية مؤخرة الجيش، بل أخذ معه كل الجنود إلى داخل السهل.
كيف فعل كتبغا ذلك وهو بكل وضوح خطأ عسكري شنيع لا ريب ولا شك في ذلك، وهو قائد عسكري بارع، وذو خبرة طويلة جداً في مجال الحروب، فهو على الأقل في هذه الموقعة قد جاوز الستين أو السبعين من عمره؛ فـ كتبغانوين من القواد الذين عاصروا جنكيز خان مؤسس دولة التتار، أي: أنه قديم جداً في المعارك، وكان قائداً أيام جنكيز خان، وجنكيز خان قد مات قبل هذه الموقعة بأربع وثلاثين سنة، وهذه السنوات الطويلة كلها قضاها كتبغا في حروب وقيادة؟ لقد كان من المفروض عليه كقائد محنك أن يترك قواتاً احتياطية خارج السهل؛ لتؤمّن طريق العودة في حال الخسارة، ولتمنع التفاف الجيش الإسلامي حول التتار، ولتراقب أي تحركات مريبة لجيوش أخرى قد تأتي لمساعدة الجيش الإسلامي.
لكن كل هذا لم يحدث.
توقفت العقلية التترية عن التفكير السليم في هذا الوقت الحساس من أوقات المعركة، وقد يفسر بعض المحللين ذلك برغبة كتبغا في القضاء الكامل على قوات المسلمين وبحسم.
ويفسره بعضهم بأنه ضعف من المخابرات التترية التي لم تدرك حجم الجيش الإسلامي الحقيقي.
ويفسره آخرون بأنه الغرور والصلف الذي كان يملأ كتبغا من أم رأسه إلى أخمص قدميه.
ويفترض بعض المحللين أن هناك أهدافاً تكتيكية معينة في ذهن القائد العجوز الخبير كتبغا لا نعرفها.
وقد يُفسر الموقف بأي شيء من هذا أو بغيره.
ولكن كل هذه التفاسير لا تعطي مبرراً مقبولاً لهذا الخطأ العسكري الفادح الذي لا يقع فيه مقاتل مغمور في مطلع حياته العسكرية.
ولكن يبقى التفسير الوحيد المقبول عندي في مثل هذا الموقف هو أن الله عز وجل دفعه إلى هذا دفعاً؛ ليخرج عن قياسات البشر، فهو سبحانه وتعالى الذي يدفع أشخاصاً بعينهم لأفعال معينة في ظروف معينة، ولو تكرر نفس الظرف ألف مرة فلعل الرجل لا يأخذ نفس هذا القرار أبداً، ولكن الله عز وجل أراد لهذا الجيش التتري الهلكة، فدفعه إلى أخذ قرار لا يتناسب مطلقاً مع قدرات وخبرات القائد الفذ كتبغا الذي يقود جيوش التتار أبداً، وهذا من مكر رب العالمين سبحانه وتعالى، يقول ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْك