للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[التشابه بين التتار والأمريكان في غزو بغداد]

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد: فمع المحاضرة الثانية عشرة والأخيرة من محاضرات قصة التتار: من البداية إلى عين جالوت.

في المحاضرات السابقة تحدثنا عن قصة التتار من بدايتها إلى عين جالوت، وذكرنا فيها تفصيلات وأغفلنا أخرى، وما أغفلناه من هذه التفصيلات لم يكن إلا لضيق الوقت فقط مخافة التطويل، وإلا فالقصة تحتاج أضعاف ذلك الوقت كي تحلل بعناية وتدرس بدقة، ولكن بعد هذه القصة لا بد لنا من وقفة.

نحن لم نقص هذه القصة لمجرد ذكر ما سبق من تاريخ وأحداث على الأرض، أو لمجرد التنظير والتحليل دون عمل أو وقفة، بل للعبرة والتفكر والاستفادة، ولقراءة المستقبل، وما أشبه اليوم بالبارحة! ما أشبه سقوط بغداد تحت أقدام الأمريكان بسقوطها تحت أقدام التتار! وما أشبه المسلمين أيام التتار بمسلمي اليوم! وما أشبه حكام المسلمين أيام التتار بحكام المسلمين اليوم! وما أشبه التتار بالأمريكان! وما أشبه حلفاء التتار بحلفاء الأمريكان! فهي صورة متكررة في التاريخ بشكل عجيب، والأمثلة على هذه الصورة كثيرة جداً في التاريخ، ونحن سنحاول ربط هذه القصة بواقعنا، وإذا أردنا أن نتحدث عن صور أخرى من جوانب التاريخ الإسلامي بصفة خاصة، أو جوانب التاريخ الإنساني بصفة عامة فسنجد كثيراً من الصور تتشابه مع واقعنا الآن، وانظروا إلى هذه المقارنة بين سقوط بغداد الأول وسقوطها الثاني.

ظهر التتار فجأة على مسرح الأحداث تماماً كما ظهر الأمريكان، فأمة التتار أمة بلا تاريخ، قامت على السلب والنهب، وقتلوا الملايين من الأبرياء؛ ليقيموا دولتهم على جماجم البشر، ولتسقى حضارتهم إن كانت هذه حضارة بدماء الملايين المظلومين، وكذلك فعل الأمريكان، فقد قتلوا مئات الألوف بل الملايين من الهنود الحمر؛ لكي يقيموا لهم دولة، ونهبوا ثروات غيرهم، وأقاموا ما يسمونه أيضاً بحضارتهم على أشلاء وجماجم سكان البلاد الأصليين، ومرت الأيام وصار الأمريكان قطباً أوحداً في الأرض تماماً كما صار التتار، ولم يقبلوا بالآخر أبداً، ورسخوا الظلم والبطش والقهر في الأرض مع ادعائهم المستمر أنهم ما جاءوا إلا لنشر العدل والحرية والأمان للشعوب، وهكذا فعل التتار.

وما أشبه طاولة مفاوضات التتار بطاولة مفاوضات الأمريكان، فهم يعطون عهوداً ولا ضمير، ومواثيق ولا أمان، وكلمات جوفاء تطلق في الهواء لتسكين الشعوب وخداعهم إلى حين، وعزمهم مبيت قبل التعهد على نقض العهود، والنية معقودة قبل اللقاء على الطعن في الظهر، وقد دخل الأمريكان بلاد المسلمين بحجج واهية كما دخلها التتار بحجج واهية، ولم يحتاجوا أبداً إلى دليل دامغ أو إلى حجة ساطعة، بل كلها أوهام في أوهام، وادعاءات في ادعاءات، فهم تارة يدعون محاربة الإرهاب، وتارة ترسيخ الديمقراطية، وتارة تحرير الشعوب، وتارة البحث عن أسلحة الدمار الشامل، وتارة البحث عن زعيم هنا أو هناك، وهكذا، فهم يريدون أي سبب ليدخلوا من ورائه؛ لأنهم حتماً سيدخلون.

وحارب الأمريكان في بلاد المسلمين حروباً كحروب التتار، وكانت حروبهم بلا قلب، لا تفرق بين مدني ومحارب أبداً، ولا بين رجل وامرأة، ولا بين طفل أو شاب أو شيخ كبير، واستولى الأمريكان على ثروات المسلمين تماماً كما فعل التتار، وإلا فما الفارق بين البترول، وبين الذهب والفضة، وما الفارق بين تغيير المناهج وتبديلها وتزييفها، وبين إغراق مكتبة بغداد وطمس كل ما هو إسلامي، فكلاهما يتميزان بروح همجية لا تقبل الحضارة، وكأن الله عز وجل أراد أن يطابق بين أفعال الأمريكان وأفعال التتار، فجعل خطوات الأمريكان في إسقاط بغداد شديدة الشبه بخطوات التتار، فكما تمركز التتار أولاً في أفغانستان كذلك تمركز الأمريكان في أفغانستان، وكما تحالف بدر الدين لؤلؤ زعيم الأكراد في شمال العراق مع التتار، كذلك تحالف أكراد الشمال العراقي مع الأمريكان.

وكما فتح كيكاوس الثاني وقلج أرسلان الرابع المجال الأرضي التركي لقوات التتار، فتح الأتراك الآن المجال الجوي التركي، وليس هناك فرق بين المجال الأرضي والمجال الجوي.

وكما اخترقت الجيوش التترية أراضي المسلمين دون مقاومة لتصل إلى العراق، كذلك اخترقت جيوش الأمريكان أراضي المسلمين الآن، وليس فقط بدون مقاومة، ولكن بترحيب عال وباستقبال حار، فما أشبه اليوم بالبارحة.

وكما فكر التتار في التعاون مع الشيعة في العراق فكر الأمريكان في ذلك، وكما استغل التتار بعض المنافقين من المسلمين لبث الحرب الإعلامية التي تحط من نفسيات المسلمين وتلقي الرعب في قلوبهم، قام الأمريكان بنفس الشيء، حتى رأينا الصحف القومية في البلاد الإسلامية تتحدث عن تدريبات وتسليحات وإمكانيات الأمريكان، وتوسع الفجوة

<<  <  ج: ص:  >  >>