وقد يعترض معترض على هذه القاعدة بما جاء في الصحيح: أن سالماً كان رجلاً كبيراً فتياً لما نزلت آية الحجاب وكان يدخل منزل أبي حذيفة وقد تقع عينه على زوجته فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشتكي وتقول: كان يدخل علينا في الحر الشديد وأرى التغير في وجه أبي حذيفة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أرضعيه يحرم عليك) سبق وأن تكلمنا: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالأحكام لا تنزل للأعيان والأشخاص فتختص بهم، بل هي عامة لجميع المكلفين وقول النبي صلى الله عليه وسلم لامرأة أبي حذيفة:(أرضعيه يحرم عليك) يستدل به على التأصيل الصحيح: أن كل إنسان يستطيع أن يرضع من امرأة فيكون محرماً لها، لكن أهل العلم ومنهم الأئمة الأربعة وجماهير الفقهاء والأصوليين قالوا: هذه حالة خاصة لـ سالم ولا تعمم على غيره، وحكي هذا القول عن كثير من الصحابة، بل كل نساء النبي صلى الله عليه وسلم قلن بأن هذه حالة خاصة سوى عائشة رضي الله عنها وأرضاها.
فالأصل: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والأحكام على العموم إلا أن تأتي أدلة تثبت الخصوص، ومثال ما يوضح ذلك ما جاء في قول الله تعالى:{يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء} فإنه عمم أولاً ثم لما أراد التخصيص أتى بدليل مستقل يدل على التخصيص فقال تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}[الأحزاب:٥٠]، فلما أراد التخصيص صرح بقوله: خالصة، فكانت بمثابة الدليل المستقل؛ لأن الأصل الذي دلت عليه الأدلة: أن الأحكام كلها على العموم, فدل ذلك على أن التشريع يكون على العموم مالم تدل الأدلة على التخصيص، وفي حديث سالم ودخوله على امرأة أبي حذيفة قرائن وأدلة دلت على أن هذه حالة خاصة لـ سالم ومن تلك القرائن التي تدل على ذلك: حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا رضاع إلا في الحولين) وهذا أسلوب حصر, يفيد أن الرضاع المحرم يكون في الحولين فقط، فالنفي والإثبات يفيد الحصر، وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً:(الرضاعة من المجاعة) فهذه دلالات تثبت أن حالة سالم حالة خاصة وهي الإجابة التي أجابها الأئمة الأربعة على الاعتراض بحديث سالم وبذلك تأكد أن الأصل في الأحكام: العموم وليس التخصيص, إلا أن الله قد خص النساء ببعض أحكام لم يشارك الرجال النساء فيها.