ولما اتسعت الفتوحات الإسلامية وتفرق القراء في الأمصار، أخذ كل صحابي يقرئ أهل البلدة التي ينزل فيها ما تعلمه من النبي صلّى الله عليه وسلم على وفق الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ولكن دخول الأعاجم في الإسلام وسماعهم للقرآن على هذا النحو أدى إلى دخول الشك في نفوس الناشئة الذين لم يدركوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
واشتد الأمر حينما كان غزو «أرمينية»، وغزو «أذربيجان» من أهل العراق، وكان فيمن غزاها حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، فرأى اختلافا كثيرا في وجوه القراءة، وكان بعض ذلك خارجا عن سنن القراءة الصحيحة المتلقاة عن النبي صلّى الله عليه وسلم وبلغ الأمر بهم إلى تكفير بعضهم بعضا، ففزع حذيفة إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه يخبره بالأمر، فاستشار عثمان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم في جمع القرآن على وفق العرضة الأخيرة؛ درءا للفتنة، وأن ينسخوه من الصحف التي كانت عند أبي بكر رضي الله عنه في جمعه الأول للقرآن الكريم فوافقوه على ذلك.
وفعلا قام عثمان رضي الله عنه بجمع الناس على الأحرف الثابتة عن النبي صلّى الله عليه وسلم في العرضة الأخيرة برسم واحد في غالبه على حرف ولغة قريش، يحتمل الأوجه المختلفة، واطرح ما سواها، لكونه نسخ في العرضة الأخيرة؛ أو لكونه يعدّ تفسيرا وشرحا للآيات الكريمة من قبل الصحابة الكرام، وقد شارك في جمع القرآن زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص بن أمية، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي رضي الله عنهم (١).
قال الحافظ ابن الجزري: «والحق ما تحرر من كلام الإمام محمد بن جرير الطبري وأبي عمر بن عبد البر وأبي العباس المهدوي ومكي بن أبي طالب القيسي وأبي القاسم الشاطبي، وابن تيمية وغيرهم، وذلك أن المصاحف التي كتبت في زمن أبي بكر رضي الله عنه كانت محتوية على جميع الأحرف السبعة، فلما كثر الاختلاف، وكاد المسلمون أن يكفر بعضهم بعضا أجمع الصحابة على كتابة القرآن العظيم على العرضة الأخيرة التي قرأها النبي صلّى الله عليه وسلم على جبريل عام قبض، فكتبوا المصاحف على لفظ لغة قريش والعرضة الأخيرة، وما صح عن النبي صلّى الله عليه وسلم وجردوا المصاحف عن
(١) أبو شامة، المرشد الوجيز، ص ٦٤ وما بعدها، ود. غانم قدوري، رسم المصحف، ص ١٠٧ وما بعدها.