للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أما كراماته: فمنها ما ذكره صاحبه وتلميذه عبد الوارث، قال: «حججت سنة من السنين مع أبي عمرو بن العلاء وكان رفيقي فمررنا ببعض المنازل فقال: قم بنا، فمشيت معه، فأقعدني عند ميل وقال: لا تبرح حتى أجيئك، وكان منزل قفر لا ماء فيه، فاحتبس عليّ ساعة فاغتممت، فقمت أقفيه الأثر فإذا هو في مكان لا ماء فيه، فإذا عين وهو يتوضأ للصلاة، فنظر إلي فقال: يا عبد الوارث اكتم عليّ ولا تحدث بما رأيت أحدا فقلت: نعم يا سيد القراء. قال عبد الوارث: فو الله ما حدثت به أحدا حتى مات» (١)، وهذه الحادثة تؤكد منزلة أبي عمرو من الولاية وحسن الصلة بالله سبحانه، حيث فجّر له عين ماء في الأرض المجدبة، ليتوضأ ويشرب منها، وهو مع ذلك لا يفاخر ولا يريد أن يطلع أحد على هذا السر الذي بينه وبين ربه سبحانه وتعالى.

ولأن أبا عمرو بهذه المنزلة من العلم والزهد والصدق فقد أقبل عليه الناس ينهلون من علمه ويقرءون عليه القرآن، وقد توقع شعبة أن ستكون قراءة أبي عمرو هي القراءة المعتمدة بين الناس، قال وهب بن جرير: قال لي شعبة: تمسك بقراءة أبي عمرو فإنها ستصير للناس إسنادا، قال ابن الجزري:

«وقد صح ما قاله شعبة رحمه الله، فالقراءة التي عليها الناس اليوم بالشام والحجاز واليمن ومصر هي قراءة أبي عمرو فلا تكاد تجد أحدا يلقن القرآن إلا على حرفه خاصة في الفرش، وقد يخطئون في الأصول، ولقد كانت الشام تقرأ بحرف ابن عامر إلى حدود الخمسمائة فتركوا ذلك لأن شخصا قدم من أهل العراق وكان يلقن الناس بالجامع الأموي على قراءة أبي عمرو فاجتمع عليه خلق واشتهرت هذه القراءة عنه وأقام سنين كذا بلغني وإلا فما أعلم السبب في إعراض أهل الشام عن قراءة ابن عامر وأخذهم بقراءة أبي عمرو، وأنا أعدّ ذلك من كرامات شعبة» (٢).

قرأ على أبي عمرو عدد كبير من الناس: فقد روى القراءة عنه عرضا وسماعا أحمد بن محمد بن عبد الله الليثي وأحمد بن موسى اللؤلؤي وإسحاق بن يوسف بن يعقوب الأزرق وحسين بن علي الجعفي والأصمعي وعبد الوارث بن سعيد ويحيى اليزيدي وغيرهم، وروى عنه الحروف محمد بن الحسن بن أبي سارة وسيبويه (٣).


(١) ابن الجزري، غاية النهاية، مرجع سابق (١: ٢٩١).
(٢) المرجع السابق (١: ٢٩٢).
(٣) المرجع السابق (١: ٢٩٠).

<<  <   >  >>