قَدْ تقدّم أن مذهب مالك -رحمه اللَّه- وسائر العلماء -القول بإجماع الأمة، ومِن مذهب مالك العمل على إجماع أهل المدينة، فيما طريقه التوقيف منه -عليه السلام- كإسقاط زكاة الخضراوات؛ لأنه معلوم أنها قَدْ كانت في وقت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولم ينقل أنه أخذ منها الزكاة، وإجماع أهل المدينة على ذلك، فعمل عليه، وإن خالفهم غيرهم، وقد احتجّ مَلِك -رحمه اللَّه- بذلك في مَسَائِل يكثر تَعْدَادها، حيث يقول الأمر الذي لا اختلاف عندنا، وهو من خبر التواتر الَّذِي قد بَيَّنَا أَنَّه مذهبه وحجته في أنهم أَوْلَى من غيرهم فيما طريقه النقل عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لأن الرسول -عليه السلام- كانت هجرته إلى المدينة ومقامه بها، ونزول الوحي عليه فيها، واستقراء الأحكام والشَّرائع بها، وأهلها مُشَاهِدون لذلك كله، عالمون به لا يخفى عنهم شيء منه، وكانت حياته -صلى اللَّه عليه وسلم- معهم إلى أن قبض- على أوجه إما أن يأمرهم بالأَمر فيفعلونه، أو يفعل الأمر، فيتبعونه، أو يشاهدهم على أمر فيقرهم عليه، فلما كانت لهم هذه المنزلة منه -عليه السلام- حتى انقطع التنزيل، وقبض بينهم -صلى اللَّه عليه وسلم- فحال أن يذهب وَهُمْ مع هذه الصفة ما سيدركه غيرهم؛ لأن غيرهم ممَّن ظعن منهم إلى المواضع هم الأقل، والأخبار عنهم أخبار الآحاد؛ لأن أعدادهم مضبوطة، وأخبار أهل المدينة أخبار تواتر، فكانت أولى من أخبار الآحاد.
فإن قيل: فقد نقل إلى أهل المدينة أشياء كانت من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في مغازيه لم يكونوا علموها قبل ذلك من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-.
قيل: الذين نقلوا إليهم ذلك عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من أهل المدينة، فلم يخرج النقل عنهم.
فإن قيل: فقد كانت منه -صلى اللَّه عليه وسلم- أشياء بمكة لما حجّ لم تكن بالمدينة.
قيل: قد كان معه أهل المدينة في حجته فهم شَاهدوه أيضًا بـ "مكة"، ونقلوا عنه ما كان منه في حجه وغيره.