يجب عند مَالِكٍ على العامِّي إِذا أراد أن يستفتي ضربًا من الاجتهاد (١)، وهو أن يقصد إلى أهل ذلك العلم الذي يريد أن يسأل عنه ولا يسأل جميع من يلقاه، ولكنه إذا أرشد إلى فقيه نظر إلى هيئته وحذقه وصنعته، وسأل عن مبلغ علمه وأمانته، فمن كان أعلى رُتْبَةً في ذلك استفتاه، وقبل قوله وفتواه؛ لأن هذا أوفق لدينه وأحوط لما يقدم عليه من أمر شريعته، ويصير هذا بمنزلة الخبرين والقِيَاسين إذا تعارضا عند العالم، واحتاج للترجيح بينهما، وترجَّح بينهما، وكذلك العامي في المَعْنيين، واللَّه أعلم.
ومذهب مَالِكٍ إِذا دخل رجل إلى قرية خَرَاب لا أحد فيها، وحضر وقت الصلاة، فإن كان من أهل الاجْتِهَاد، ولم يَخْفَ عليه دلائلِ القبلة يرجع إلى ذلك، ولم يلتفت إلى غير ذلك، ولم يلتفت إلى محاريب يشاهدها في آثار مساجد قد خربت، فإن خفيت عليه الدلائل، أو لم يكن من أهل الاجتهاد، وكانت القَرْيَة للمسلمين، فإنه يصلِّي إلى مُصَلَّى تلك المحاريب؛ لأن الظاهر من بلاد المسلمين أن مساجدهم وآثارهم لا تَخْفَى وأنَّ قبلتهم وَمَحاريبَهُمْ على ما توجبه الشريعة، وأما إذا كانت محاريب منصوبة في بلاد المسلمين العامرة، وفي المساجد التي تكثر فيها الصلوات وتتكرَّر، ويعلم أن إمامًا للمسلمين بناها، واجتمع أهل البلد علي بنائها، فإن العالم والعامي يصلون إلى تلك القبلة، ولا يحتاجون في ذلك إلى الاجتهاد؛ لأنها معلوم أنها لم تُبْنَ إلا بعد اجتهاد العلماء في ذلك، وأما المساجد التي لا تجري هذا المجرى، فإن العالم إذا كان من أهل الاجتهاد، فسبيله أن يستدل على الجهة، فان خفيت عليه الدلائل صلى إلى تلك المحاريب إذا كان بلدًا للمسلمين عامرًا؛ لأن هذا أقوى من اجتهاده مع خفاء الدلائل عليه، فأما العامِّي فيصلي في سائر المساجد؛ إذ ليس من أهل الاجتهاد، واللَّه أعلم.
(١) وهو لغة: افتعال من الجهد وهو المشقة وهو الطاقة. وفي الاصطلاح: بذل الوسع في نيل حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط، انظر البرهان ٢/ ١٣١٦، نهاية السول ٤/ ٥٢٤، المستصفى ٢/ ٣٥٠.