وَإِنَّمَا كَانَ الْمُعْتَبر زَعمه هُوَ الْمُدَّعِي، دون الْمُدعى عَلَيْهِ، لِأَن الْمُدعى عَلَيْهِ مُنكر متمسك بِالْأَصْلِ، وَهُوَ عدم مَا يَدعِيهِ الْمُدَّعِي، وَالْمُنكر فِي غنى عَن بَيَان الْأَسْبَاب الشَّرْعِيَّة وَغير مُكَلّف بهَا لتأييده إِنْكَاره، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ منشئاً للخصومة وَإِذا ترك لم يتْرك بل فِي موقف الدّفع، وَالْإِنْكَار لَا يتَضَمَّن إِثْبَات حق لأحد وَلذَا يقوم السُّكُوت بِلَا عذر مقَامه ويغني عَن الإفصاح بِهِ، فَكَمَا أَن السُّكُوت لَا يثبت حَقًا لأحد فَكَذَا مَا قَامَ مقَامه، فَإِذا ادّعى بعد ذَلِك خلاف مَا يَقْتَضِيهِ إِنْكَاره لَا يعد متناقضاً شرعا، لِأَن التَّنَاقُض لَا يمْنَع سَماع الدَّعْوَى إِلَّا إِذا كَانَ أول الْكَلَامَيْنِ فِيهِ مثبتاً حَقًا لمُعين. (ر: رد الْمُحْتَار، أول بحث التَّنَاقُض من بَاب الِاسْتِحْقَاق) معنى هَذَا لَا يمْنَع الْمُدعى عَلَيْهِ أَن يَدعِي بعد الصُّلْح مَا يُخَالف مُقْتَضى إِنْكَاره السَّابِق.
بِخِلَاف الْمُدَّعِي فَإِنَّهُ هُوَ المنشئ للخصومة والآتي بِأول الْكَلَامَيْنِ، وَلذَا لَو ترك ترك، وَهُوَ فِي موقف التهجم على الْمُدعى عَلَيْهِ والانتزاع من يَده، والنزع لَا بُد فِيهِ من كَون مَا يزعمه من السَّبَب مطابقاً لوجه شَرْعِي يسْتَحق بِهِ النزع، كَمَا يَقُول أَبُو يُوسُف، رَحمَه الله تَعَالَى، فِي كتاب الْخراج:" لَا ينْزع شَيْء من يَد أحد إِلَّا بِحَق ثَابت مَعْرُوف ".
فَإِذا كَانَ الْمُدعى عَلَيْهِ مُنْكرا وَكَانَ دَافع الْبَدَل هُوَ الْمُدَّعِي لم يكن فِي معنى الْمُضْطَر، لِأَنَّهُ لَو ترك ترك، فَكَانَ ذَلِك العقد فِيمَا زَعمه صلحا مَحْضا لَيْسَ فِيهِ معنى الْمُعَاوضَة، لِأَنَّهُ بِدفع الْبَدَل قد استخلص فِي زَعمه ملكه، فَإِذا اسْتحق من يَده يقْتَصر الِاسْتِحْقَاق عَلَيْهِ وَلَا يُمكن اعْتِبَاره فِي حكم من تلقى الْملك من غَيره، كَمَا هُوَ صَرِيح من كَلَام رشيد الدّين الْمُتَقَدّم، أَلا ترى أَن المُشْتَرِي إِذا أنكر دَعْوَى الْمُسْتَحق الْملك وَادّعى أَن الْمُدعى ملكه وَلم يذكر تلقي الْملك من بَائِعه فَلَا يرجع عَلَيْهِ بِالثّمن. (ر: رد الْمُحْتَار، أَوَائِل الِاسْتِحْقَاق) فَهَذَا أولى.
وَإِذا كَانَ دَافع الْبَدَل هُوَ الْمُدعى عَلَيْهِ الْمُنكر كَانَ فِي معنى الْمُضْطَر، لِأَنَّهُ لَو ترك لم يتْرك، فَإِذا اسْتحق الْمُدعى من يَده لم يكن هُنَاكَ مَا يمْنَع من اعْتِبَاره فِي حكم من تلقى الْملك من غَيره فَلَا يمْتَنع رُجُوعه بِالْبَدَلِ، إِذا لم يُوجد مِنْهُ سوى إِنْكَار كَون الْمُدعى بِهِ ملك الْمُدَّعِي، وعَلى تَسْلِيم صدقه فِي إِنْكَاره هَذَا فَإِنَّهُ