ان صاحب الدنيا يطلب ثلاثة أمور لا يدركها الا باربعة أشياء: اما الثلاثة التي يطلب فالسعة في المعيشة والمنزلة في الناس والزاد إلى الآخرة.
وأما الأربعة التي يحتاج إليها في دركها: فاكتساب المال من معروف وجوهه وحسن القيام عليه والتثمير له بعد اكتسابه وانفاقه فيما يصلح المعيشة ويرضى الأهل والاخوان ويعود عليه في الآخرة ثم التوقي لجميع هذه الآفات بجهده فمن أضاع هذه الخلال الأربع لم يدرك ما أراد لأنه إن لم يكتسب لم يكن له مال يعيش به وإن هو كان ذا مال واكتساب ثنم لم يحكم تقديره أوشك أن ينفذ فإذا هو ليس له شيء. وان هو وضعه ولم يثمره لم تمنعه قلة الانفاق من سرعة النفاد كالكحل الذي لا يأخذ منه الا مثل الغبار ثم هو سريع الفناء. ثم ان كانت نفقته في غير مواضع الحقوق اكتسب المذمة وصار إلى عواقب الندامة. وان هو اكتسب وأصلح ثم أمسك عن انفاقه في وجوهه كان كمن يعد فقيراً.
لا تفعلن ذلك أيها الملك ولا ترحم من تخافه فان الملك الحازم ربما ابغض الرجل واقصاه ثم تكاره عليه فقربه وولاه لما يعرف من غنائه وفضله فعل فعل المتكاره على الدواء البشع رجاء منفعته ومغبته. وربما احب الرجل وأدناه ثم أهلكه واستأصله مخافة ضره كالذي تلدغ الحية أصبعه فيقطعها مخافة أن ينتشر السم في جسده كله فيقتله.
قرأت في كتاب للهند: السلطان الحازم ربما أحب الرجل فأقصاه واطرحه مخافة ضره فعل الذي تلسع الحية اصبعه فيقطعها لئلا ينتشر سمها في جسده. وربما ابغض الرجل فأكره نفسه على توليته وتقريبه الغناء يجده عنده كتكاره المرء على الدواء البشع لنفعه.
وقد كان يقال: لا يغفل العاقل عن التماس علما ما في نفس أهله وولده واخوانه وصديقه عند كل امر وفي كل لحظة وكلمة وعند القيام والقعود وعلى كل حال فأن ذلك شاهد على ما في القلوب " ك١٧٩ -
١٨٠ ".
فلا يمنعن ذا العقل عداوة كانت في نفسه لعدوه من مقاربته والتماس ما عنده إذا طمع منه في دفع مخوف.
وكثير من المودة يتحول بغضاً وكثير من البغض يتحول محبة ومودة عن حوادث العلل والامور. وذو الرأي والعقل يهيئ لكل ما حدث من ذلك رأياً من الطمع فيما يحدث من ذلك قبل العدو واليأس مما عند الصديق " ك٢٢٩ ".
فانه ليس كل من اسيء إليه ينبغي أن يتخوف غشه وعداوته، ويؤيس من نصيحته ومودته. لكن ينبغي ان ينزل الناس في ذلك على اختلاف ما بينهم. فان منهم من إذا ظفر بقطيعته كان الرأي ان يغتنم ذلك منه ويمتنع من معاودته ومنهم من لا ينبغي تركه وقطعه على كل حال " ك٢٥٥ ".
فان خلالاً ثلاثاً المرء حقيق بالتفكر فيها والاحتيال لها: ما يمضي من الضر والنفع بأن يحترش من الضر الذي اصابه لئلا يعود إليه ويرفق في المحبوب طلب مراجعته. وما هو مقيم فيه من ذلك فيستوثق مما يوافقه ويهرب مما يخالفه وما هو منتظر له فيطلب المرجو ويلتجئ من المحذور بالاستعداد لما يرجو أو يخاف " ك٦٢ ".
وكان يقال: الزم ذا العقل والكرم واسترسل إليه واياك وفراقه ولا عليك ان تصحب من لا جود له إذا كان محمود الرأي واحترس من سيئ اخلاقه وانتفع بما عنده ولا تدع مواصلة السخي وان كان لا نبل له واستمتع بسخائه وانفعه بلبك واهرب من اللئيم الأحمق " ك٩٤ ".
وقرأت في كتاب للهند: ثق بذي العقل والكرم واطمئن إليه وواصل العاقل غير ذي الكرم واحترس من سيئ أخلاقه وانتفع بعقله وواصل الكريم غير ذي العقل وانتفع بكرمه وانفعه بعقلك واهرب من اللئيم الأحمق " ع٨٠:٣ " وكان يقال: افضل البر الرحمة ورأس المودة الاسترسال وانفع العقل المعرفة بما يكون وبما لا يكون وطيب النفس وحسن الانصراف عما لا سبيل إليه " ك١٣٩ -
١٤٠ ".
وسمعت العلماء قالوا:.... وافضل البر الرحمة ورأس المودة الاسترسال ورأس العقل المعرفة بما يكون وما لا يكون وطيب النفس حسن الانصراف عما لاسبيل إليه " د٣٥ ".
وقرأت في كتاب الهند: رأس المودة الاسترسال " ع٥:٣ ".
وقد جربت وعرفت انه لا ينبغي لأحد أن يلتمس من الدنيا طلباً فوق الكفاف الذي يدفع به الحاجة والأذى عن نفسه وذلك يسير إذا أعين بسعة يد وسخاء نفس " ك١٤٠ ".
ولو ان رجلاً وهبت له الدنيا بما فيها لم ينتفع من ذلك إلا بالقليل الذي يكف به الاذى عن نفسه فاما ما سواه ففي مواضعه لا يناله " ك١٤٠ ".