فهو من الله ربه ليس إلى العبد منه شيء وذلك أن الله عز وجل لما أراد أن يخلق آدم عليه السلام خمر طينته بيده وولي تصويره نفسه وخلقه من شيئين من أدنى شيء وأخسه وهو التراب وأعلى شيء وأشرفه وأطيبه وألطفه وهو ماء الرحمة ووضع فيها شيئا أشرف الأشياء وأبهاها وأنورها أخرجه من خزان الربوبية وقده بعلم الوحدانية عليه لباس الألوهية محشو بنور الجلال والفردانية، يحكي عن رب كريم وإله عظيم وقادر لطيف ليس كمثله شيء وهو الحكيم الخبير، وهو نور المعرفة ثم وضع فيه تلك الخمسة الأشياء التي ذكرناها ثم وضع الطينة تحت عرشه أربعين خريفاً حتى تشرب فيه كل ما وصفنا وخلص إلى كل عضو وعرق ومفصل منه من قرنه إلى قدمه ثم نفخ فيه الروح حتى امتلأ منه واستقر فأخذ كل شيء في آدم حظه من نفخ الروح ومن النور الذي وصفنا ومن قربة التصوير وصنعة اليد ومن تلك الخمسة الأشياء التي وصفنا وأصابت جميع ذريته حظوظهم من ذلك كله هم في صلبه كل على حياله وحصّنه وصارت تلك الثلاثة عندهم آية لربهم ودليله عليه واستدلوا بها على ربهم إذ نالوا من التصوير وصنعة اليد القربة ونالوا من النفخ الحياة إذ كانت الحياة من حياته فحيوا به، ومن النور الذي ذكرنا وهو نور المعرفة بالرؤية بلا كيفية ولا حد وإنما رأوا ذلك بتلك الخمسة التي ذكرنا لو لم يكن تلك لم يقيموا على ذلك كله ولم يقدروا على معرفته.
[أما الذهن]
فيه يوصل إلى كل ما خفي عليه، وأما الفهم فبه يدرك الغيب، وأما الذكاوة فبه يستخرج المكنون بالتحقيق، وأما الحفظ فبه يحاط، وأما العلم فبه يذكر ما غاب، فباستعمال هذه عرفوا ربهم وبها فهموا عن ربهم، ووقفوا على صانعهم وحفظوا ما نالوا منه وأسماؤهم في المقادير وهم في صلب أبيهم آدم عليه السلام ذلك هدي العلي العظيم العليم، فلما أخرجهم من صلبه يوم الميثاق ووضعهم على كفه ونالهم قربته واستعملوا الأشياء الخمسة دلتهم تلك القربة على هذه القربة أن كليهما من الرب الرحيم فأيقنوا به فلما كلمهم دلهم نفخ النور على أن الكلام من الذي نفخ الروح يومئذ إذ كان له عليهم بينه فيه ثم لما تجلى لهم عن وجهه الجليل سطع منه نور على وجوههم وغشيهم به دلهم ذلك النور الذي وضع في أبيهم وهو نور المعرفة على أن النور الذي غشيهم اليوم من الجليل الجميل فعرفوه رباً واحداً أحداً فرداً وذلك أنه لما اتفق النوران والتقيا سطع على أعين قلوبهم النوران الربانيان دلهم على ربهم الفرد الواحد فعرفوه وأيقنوا به، ويرون ذلك كله باستعمال تلك الخمسة التي وصفنا فالعبد في استعمالهن محمود وفي تركهن مذموم على كل حال وفي كل وقت وفي كل مكان وذلك أنه إذا لم يستعملهن في كل وقت ونسي صنع ربه به وما أكرمه به من النفخ والنور والقربة يوم آدم ولم يذكرها ولم يحفظها بالفهم والذهن لم يعرف ربه يوم الميثاق إذ لم يكن عنده ما يستدل به على كلامه وقربته ونوره الذي ينالهم وهم في كفه، فالمعرفة واستعمال تلك الخمسة على العبد هو مطلوب بهن ومحاسب عليهن محمود على استعمالهن، مذموم على تركهن، ونور المعرفة من الرب ليس إلى العبد منه شيء ولا عليه ذم ولا مدح إذ كان ذلك من فعل الله بعبده وإكرامه له به فإذا استعمل العبد تلك الخمسة فإن استعملهن خرجت المعرفة فإذا استعمل المعرفة برز النور المتمكن فيها وهو نور المعرفة فالتقى النور الميثاقي الذي غشيهم وسطع من الجليل عند التجلي فتشاكلا ولك يتشابه دلاً على ربهم فاستدل العبد بما سطع يوم الميثاق بما كان عنده من النور الذي وضع في آدم يدل كل واحد منهما على نفسه أمن العبد وأيقن وعرفه ومثل ذلك مثل القدح فالنور كالنار والمعرفة كالحديد متمكن فيه النار وهو النور الأول يوم المقادير والحجر التجلي يوم الميثاق والنور متمكن فيه والقلب والفطنة المندوق فلما قدح العبد الحجر بالحديد خرج منهما النار فالتقيا على القلب فيلهما القلب فنوراه ودلاه على الله عز وجل.