قال كثرت التفاسير لهذه الآية من وجوه شتى، وكل حسان؛ ولكن التفسير ما فسره الحكماء من الحكمة العليا التي خرجت من خزائن المعرفة ونطقت به ألسنة أهل العقول من بحور الإلهام حتى صارت منها أودية ملأت الأفق، أما قوله عز وجل (الله نور السماوات والأرض) ، فإن الأنوار كلها تسعة، وهن كلهن من نور الله، فأما النور الأول فنور الشمس ولباسه الضوء، وأما الثاني فنور القمر، وليس عليه لباس وإنما معنانا في ذلك لباس الباطن لا لباس الظاهر، فأما لباس الظاهر فإن لكل واحد منهما لباساً، فلباس الشمس من العرش، ولباس القمر من الكرسي، هذا في المجاز وفي التحقيق لا يقال لما ذكرنا لباس، إنما ذلك كسوة، والكسوي سوى اللباس، الكسوة ما يواري العورة، واللباس ما يلبس فوق الثياب، ذلك للنفس وهذا للعين، وشتان ما بينهما عند من له فهم ولبّ في التمييز بينهما، ونكتة أخرى أن الكسوة لحاجة النفس، واللباس فرح القلب وفيه ما لا يمكن الفحص عنه، ولو قصدت ذلك طال الكتاب، رجعنا إلى ما كنا فيه، وأما النور الثالث فنور الكواكب، وأما النور الرابع فنور النهار، وأما النور الخامس فنور البرق، وأما النور السادس فنور النار، وأما النور السابع فنور الأعين، وأما النور الثامن فهو نور الجواهر، وأما النور التاسع فهو رأس الأنوار وملكها وذلك أنه خرج من الوحدانية وعليه لباس الربوبية يدل على الألوهية ويشير إلى الفردية وذلك قوله، (أفمن كان على بينة من ربه) ، فهو نور المعرفة ويتلوه شاهد منه فهو نور هذه الشواهد والعلائم الذي يدل على معنى الله ويشير إليه ويؤدي عنه بالصفات والذات والأسماء الدالات، وإنما صار أبهر الأنوار وأعلاها وأشرفها وكلهن من رب واحد لأن تلك أنوار الظاهر، وهذا نور الباطن فبنور الظاهر وبنور الباطن يرى الباطن لو أنك أردت أن تنظر إلى ما غاب عنك بنور بصرك لم تطق ذلك أبداً. ونكتة أخرى أن بنور الباطن يرى الظاهر والباطن كلاهما، وبنور الظاهر لا تطاق الرؤية إلاَّ للظاهر فجميع الأنوار التي ذكرنا بدت من ملكه وقدرته، والنور الأشرف وهو نور المعرفة إنما بدا من الوحدانية، فتلك دالة على الملك والملكوت لأنها بدت منها ومن نوريته خرجت هذه الأنوار كلها، فوصف نوريته الذي بدا من الملك لأهل السماوات وأهل الأرض، ثم عطف على النور الأعلى والأشرف، وهو نور المعرفة الذي بدا من الوحدانية فذكره وضرب له مثلا ليفهمه خلقه وليعرفوا كرامتهم التي أكرمهم الله بها من بين خلقه ليشكروه على صنعه بهم ونظره لهم وعطفه عليهم في سابق علمه بهم حيث لا أرض ولا سماء ولا عرش ولا كرسي ولا قدر ولا قضاء ولا شيء ولا مقادير، نظر إليهم في هويته وفرديته وديمومته وقدمه فاجتباهم وهداهم واختارهم لنفسه وجعل أسماءهم عنده في سابق علمه ليكون خروجهم ذريتهم بين يديه في غيبة المكنون ينظر إليهم وكنفه بالمحبة عليهم فيباهي به خلقه وخليفته حتى يمجدوه ويثنون عليه ويركعون ويسجدون له، وحيث يسلون سيوفهم النورانية من أغمادها مموهة بماء المحبة محددة بالمعرفة، مسقاة بإخلاص فيهزونها بالشوق بين يدي الجليل على بساط الفرح فتلمع سيوفهم وتشرق منها أنوار فتحرق الحجب هيبته، وتحير الملائكة سلطانه وتحرق الشرك واكفر نيرانه، ويرتعد من الشوق إلى صاحبها عرش الجليل، وينبع ويزهو جنان الفردوس من طيبه فيا له من عز ويا له من شرف لو كنت تعقل، رجعنا إلى ما كنا فيه، فقال:(كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد) إلى آخر الآية، فأما وجه غربيته، فإنه يقول: كمشكاة، ككوة فيها مصباح، والمصباح في زجاجة، والزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة: يقول يوقد القنديل من دهن شجرة مباركة وهي الزيتون لا شرقية ولا غربية، يقول: ليس في الشجرة شرقية ولا غربية؛ يكاد زيتها يضيء، يقول: يضيء القنديل بغير نار ولو لم تمسسه نار، يقول: يضيء ضياء لو لم يكن نار، نور على نور يقول: هو نور يعني الزيتون على نور، يقول على الزجاجة، يهدي الله لنوره من يشاء وأما المثل فإنه يقول: كان بيت له مشكاة وهي الكوة، وفيها قنديل معلق قد صبّ فيه ماء وفوقه دهن الزيت إلى أن جاوز النيزق وصارت الفتيلة فيها مصبوغة، والقنديل يضيء أهل البيت بضوء الدهن، الذي فيه وهو دهن الزيتون من غير نار كأنه كوكب دري في شدة ضوء ودريته.