وظهر هذا النَّوع من الفقه في المصنَّفات القديمة - بصورةٍ عامَّةٍ - تحت عنوان: السِّيَر؛ أي سِيَر الخلفاء والأمراء والقضاة، ومسالكهم السياسيَّة والحُكْميَّة في معاملة غير المسلمين، وما يلزمهم في ذلك من العدل فيهم والرِّفق بهم، وكفِّ أذاهم عن المسلمين والعكسُ، إظهارًا لعدل الإسلام وسماحته.
وبمقتضى فقه الأقليَّات غيرِ المسلمة في دولة الإسلام؛ عاشتْ أممٌ من ملَلٍ شتَّى في كنَفِ المسلمين، آمنةً، مطمَئِنَّةً، مصونةَ الحقوق، سواءٌ في مراحل قوَّة دول الإسلام أو ضعفها، فلم يُكرهوا على ترك دينهم والتحوُّل إلى الإسلام، ولا حِيفَ عليهم في شيءٍ مما يتعلَّق بنسائهم وأولادهم وأموالهم ومعابدهم ومعاملاتهم؛ ما استقاموا على ما عاهدوا عليه المسلمين، ولم يظهر منهم خيانةٌ أو مظاهرةٌ لعدوِّ المسلمين عليهم.
وقد أطلق المسلمونَ على من يعيشون بين أظهرهم من أهلِ الملل الأخرى اسمَ:«أهل الذمة» لتأكيد حقِّهم على المسلمين، وأنَّهم في ذمَّتهم ومسؤوليَّتهم، على خلاف ما تدلُّ عليه التسميةُ التي سُمُّوا بها في معاجم وموسوعاتٍ أجنبيةٍ، حيثُ سُمِّي النظامُ الذي يخضعون إليه:«نظام الاستسلام»، أو:«نظام الخضوع».
والسَّماحةُ التي عامل بها الإسلامُ الذِّميِّين والمستَأْمَنين؛ مكَّنَتْ أعدادًا منهم أنْ ينْبُغُوا في فنونٍ شتَّى، كالطِّبِّ والصَّيدلة والفلك والجغرافيا والحساب والهندسة والأدب والتَّرجمة، وأسهموا في التقدم العلميِّ والتِّقنيِّ الذي وصلتْ إليه الحضارةُ الإسلاميةُ في عهدها الزَّاهر.
واليوم وقد أصبح الواقع منعكسًا بإقامة فئةٍ من المسلمين في بلادٍ غير مسلمةٍ، واستيطانها على التأبيد، أو المقام فيها لأمدٍ محدودٍ لغرضٍ تعليميٍّ أو تجاريٍّ أو دبلوماسيٍّ، أو غير ذلك؛ فالحاجةُ تقتضي أن يتفقَّهوا في أوضاعهم الجديدة، حتَّى يحافظوا على هَوِيَّتِهم من المسْخِ، ودينِهم من الضَّياعِ، ويتعاونوا في إقامته فيما بينهم، وتعليمه لأبنائهم. ويُحسِنُوا التَّعاملَ مع