للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[في ذكر الزجاج]

وقد ذكر الله تعالى في كتابه وعنى أشف أنواعه واصفاه في قوله تعالى (مثلُ نوره كمشكاة فيها مصباح المصباحُ في زُجاجة الزجاجةُ كأنَّها كوكب دُرىٌّ) وقوله تعالى (فلما رأته حسبته لُجَّة وكشفت عن ساقيها قال انه صَرح ممرَّد من قوارير) وقد قالوا، انه أول زجاج ظهر في الدنيا ونسبوا عمله إلى الشياطين - وأرخ الفرس أول ظهوره بأيام افريدون - وهو بالرومية ايوى لوسيس وبالسريانية زغزوغتا وكأن الزجاج معربة وهو مسبوك من الحجر المعروف لعمله أو من رمل يجتمع مع القلى ويدام أيقاد النار عليه أياما يجتمع بكثرتها ويتصفي ويزداد صلابة وأظن ليس بالمحقق ان في حبات الرمل جواهر شتى إذا تأملت رأيت فيها الأسود والأحمر والأبيض والمشف البلورى وانه من بينها هو المنسبك بمعونة القلى ثم يتميز منه سائره ويتلاشى بطول مدة الإذابة فيتصفي ورغوته تسمى مسحوقونيا وهى بيضاء منصفحة يسرع انكسارها وتذوب في الفم ويقال لها زبد الزجاج وماءه وماء القوارير - وقال صهار بخت، هو طلى الغضارات المصرية وليس ذلك بممتنع - ووزن الشامي منه الصافي الغليظ بالقياس إلى القطب اثنان وستون وثلثان وثمن - وقد يتلون الزجاج في الذوب بصنوف ألوان منها ما يبقى معه فيضم كالسواد والبياض وما استولى فيه البياض كالفيروزجية وليس يتخلف مجرده المجرود عن البلور في الصفاء إذا نقى من النمش والنفاخات الإبر خاوه الجوهر والذلة بالكثرة - والمقصود من أوانيه هو الشفاف الصادق ليرى من خارجها ما في أفواجها قال بكير السامى -

إذا الذهب الابريز اخفي شرابنا ... وفيه عيوب فالزجاجة افضل

وقال السرى -

انَّم استودعه من زجاجة ... ترى الشيء فيه ظاهرا وهو باطن

وقال أيضا -

سرىّ إليك كأسرار الزجاجة لا ... يخفي على ناظريها الصفو والكدر

وقد تقدم في القوارير الفضية ان المراد بها خواص القوارير دون خواص الفضة وان لا مدخل للفضة فيها إلا من جهة التعارف ووقوع بياضها على العديم اللون دون الأبيض اللبني كما ان الشعراء قصدوا في صفة الكؤوس بالبياض صفاءها ثم تجاوزوه إلى اللؤلؤ وقشوره فبعدوا عن المقصود في ظاهر اللفظ وعن فضيلة الشفاف في الاقداح - فإذا تشابهت الدرر لم ير ما وراءها الا ان يطلع عليها مطلع من فوقها فترى الخمر منها في سوى الحجم وتبطل به تشبيهاتهم وصفتهم شعاعها ولونها وحبابها إذا غارة في جوف الدرة عن الاعين سوء البصير فيها والضرير - قال علي بن عيسى صاحب التفسير وأتبعه فيه أبو محمد السوقا باذى ان الفضة الشفافة كالبلورة أفضل من الياقوت والدر وهما افضل من الذهب فتلك الفضة افضل من الذهب - وهذا كلام خطبى خال عن محصول له لا في الوجود ولا في الوهم - اذ لا يكاد يتصور غير ما شوهد له في الوجود نظير إما لكله وإما لأجزائه في حالات مختلفة - ثم يتمكن الوهم من جميعها وتركيبها وان استحال وجود ذلك التركيب في المعهود - وكل ابيض نقى براق فانه يشبه الفضة ولم يشاهد قط ابيض شفاف ولن يوجد في اللبن إلا بعد التجبن وتفصيل الأبيض منه واما المتعارف في هذا الأبيض على الذي عدمه وعدم سائر الألوان - قال عنترة -

جادت عليه كل بكر ثرة ... فتركن كل قرارة كالدرهم

ولم يعن أن وسمها كالدرهم فان الجود يفيض ويسبل ولا ذهب إلى استدارة الدرهم وإنما قصد الصفة بالنقاء والصفاء فشبهها بالفضة وعبر عنها بالدرهم لأنه منها يعمل وعلى مثله جمعهم بياض المرجان إلى ضفاء الياقوت دون حمرته المقصودة في هذا التشبيه فلقد يوجد ما هو اصفي من الياقوت مثل البلور والزجاج - وإنما الغرض في ذكره هو التركيب من حمرة الياقوت وبياض المرجان وخلو البياض عن الحمرة غير مستحسن في أبشار البشر ولأجله قالوا (الحسن احمر) قال بشار -

فخذي ملابس زينة ... ومصبغات هن أفخر

وإذا دخلتي تقنعي ... بالحسن ان الحسن احمر

وقال -

هجان عليها حمرة في بياضها ... تروق بها العينين والحسن احمر

<<  <   >  >>