تارة، والسبعة أو السبعون تارة أخرى١، وقد فاتهم أن المبالغة في بعض الأرقام -وإن تك في ذاتها حقيقة واقعة- لا تلغي المفهوم العددي في الأحوال كافة، ولا تلازم بين الأمرين حين تنتصر لمفهوم عددي معين أوثق الروايات، أصدق وقائع التاريخ.
لا مفر إذن من مجابهة أولئك المستشرقين، مغالطيهم ومتجاهليهم، بأن الله بعث نبيه حقا على رأس الأربعين, من غير استناد إلى تفسير "العمر" في الآية، ومن غير تأثر بعقائد الساميين في هذا الرقم العجيب، بل اعتمادا على ما نطقت به الروايات الصحيحة المشهورة التي كادت تبلغ حد التواتر، إذ استفاضت بين الخاصة والعامة، وتناقلتها الألسنة القديمة والحديثة.
وما من ريب في أن إثارة الشبهات حول عمر النبي في بدء الوحي محاولة أولية للتشكيك في منطلق الدعوة الإسلامية بمكة تتلوها محاولات أخرى للغض من قيمة المعلومات المأثورة المتعلقة بمراحل الوحي المتعاقبة في مكة ثم في المدينة, فأنى للباحث أن يتصور كيف كانت تتتابع نوازل القرآن إذا كانت صورة بدء الوحي قد انطبعت في ذهنه غامضة لا تحكي الأصل في شيء؟
وإن في وسعنا الآن -وقد أزحنا عن الظروف الأولى لبدء الوحي كل لبس أو غموض، وفصلنا القول في سن الرسول صلى الله عليه وسلم قبيل البعثة- أن نتدرج مع التنزيل القرآني مرحلة مرحلة, مطمئنين إلى ما وافانا به أئمتنا المحققون في وصف تلك المراحل ابتداء ووسطا وختاما، مثلما اطمأننا -فيما سبق من فصول هذا الكتاب- إلى ما وافونا به في تحليل ظاهرة الوحي نفسها، وفي تقصي النوازل القرآنية المنجمة على حسب المناسبات الفردية أو الاجتماعية، وفي تحري جمع القرآن وحفظه واستنساخه في المصاحف وتحسين رسمه، وفي الاستيثاق من متواتر أحرفه السبعة، وفي تتبع أسباب نزوله وما صح من وجوه الترابط بين آياته، بما عرف عنهم من ورع بالغ يتناول الأشخاص والمتون والأسانيد، وحاسة نقدية مرهفة تعنى بالتناسق الفني ولا تهمل حقائق التاريخ.