ولعنا لا نرتاب -إذا وضعنا العلوم القرآنية موضع الموازنة- في أن العلم بالمكي والمدني أحوجها إلى تمحيص الروايات، وتحقيق النصوص، والتحاكم إلى التاريخ الصحيح، وهو -على كل حال- أحوج إلى هذا كله من "أسباب النزول"، لأن العلم بتلك الأسباب يتناول ضروبا معينة من الجزئيات المتعلقة بالمناسبات الفردية والاجتماعية, ولا يتناول شيئا من التفصيلات القرآنية الأخرى التي نزلت ابتداء غير مبنية على أسباب١، أما العلم المكي والمدني فلا غنى له عن تناول القرآن كله سورا وآيات: فكل سورة فيه إما مكية أو مدنية، وقد تستثنى من السورة المكية آيات مدنية، ومن السورة المدنية آيات مكية، كما أن كل آية في القرآن معروفة "الهوية" واضحة السيرة, فإذا اختلطت بغير زمرتها أخضعها العلماء الثقات لمقاييسهم النقدية الدقيقة حتى قطعوا أو كادوا يقطعون بأنها تنتمي إلى النوازل المكية أو المدنية.
كان العلم بالمكي والمدني إذن خليقا بالعناية البالغة التي أحيط بها، وجديرًا أن يعد بحق منطلق العلماء لاستيفاء البحث في مراحل الدعوة الإسلامية، والتعرف على خطواتها الحكمية المتدرجة مع الأحداث والظروف والتطلع إلى مدى تجاوبها مع البيئة العربية في مكة والمدينة، وفي البادية والحاضرة، والوقوف على أساليبها المختلفة في مخاطبة المؤمنين والمشركين وأهل الكتاب.
ووفاء هذا العلم بتلك المعارف الواسعة جعل بحوثه أشتاتا وألوانا: فهو في آن واحد ترتيب زماني، وتحديد مكاني وتبويب موضوعي, وتعيين شخصي.
ويخيل إلينا أن هذه الألوان المتباينة جميعا قد طافت بأذهان العلماء حين ترددوا في تقسيم المكي والمدني على أساس من المكان أو الزمان أو الأشخاص. فمن قال:"المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة، والمدني ما نزل بالمدينة" لاحظ المكان، ومن قال:"المكي ما وقع خطابا لأهل مكة، والمدني ما وقع خطابا لأهل المدينة" راعى أشخاص المخاطبين، ومن آثر الأخذ بالاصطلاح
١ انظر ما أوضحناه في الصفحات الأولى من الفصل السابق.