للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهذه الزمر الثلاث -وإن بدت سمات المكي واضحة عليها- تتفاوت تفاوتا يسيرا فكرة وأسلوبا حتى لتبدو كل زمرة منها، بل كل سورة منها، وحدة فكرية إيقاعية قائمة بذاتها. وما سنلمحه في تحليلنا الخاطف لها لا يعدو الإيماء إلى أبرز ما يتمثل في ألفاظها وفواصلها والعقائد التي انطوت عليها آياتها المعجزات.

ففي سورة العلق -التي رأينا في فصل ظاهرة الوحي أنها أول ما نزل من القرآن١- تصوير حي لأضخم حدث في تاريخ البشر شهدت به الإنسانية نفسها تولد ميلادا جديدًا يصلها بالسماء وأسرارها ولا يلصقها بالأرض وأوحالها، فيوجه المقطع الأول من هذه السورة محمد رسول الله إلى الاتصال بالملأ الأعلى والقراءة باسم الله٢، فمنه المنشأ وإليه المصير، وهو الذي كرم الإنسان بتعليمه أسرار الوجود، وتمكينه من استعمال "القلم" رمز العلم والتعليم، مع أنه خلقه من شيء مهين، "من علق" دم جامد عالق بالرحم في قرار مكين٣.

وفي مطلع سورة المدثر -وقد نزل كما رأينا بعد فترة الوحي٤- ينادي الله نبيه إلى قيام لا نوم فيه، ونشاط لا يعرف الكسل، فليثب من فراشه وثبا، وليترك الدثار الدافئ فإن أمامه كفاحا طويلا ثقيلا: إن الخطر القريب يترصد الضالين الغافلين، فعلى رسول الهدى أن يوقظ الهجع الرقود، مكبرا ربه العظيم، مستصغرا كل كيد في هذا الوجود، مطهرا ثيابه أمارة على طهارة قصده، هاجرا كل شرك ودنس، محاربا بلا هوادة كل موجبات


١ راجع ذلك الفصل وقارن بصحيح البخاري ١/ ٧ بدء الوحي.
٢ يراد بالقراءة هنا تلاوة النبي ما نزل من الوحي بإلهام من الله، لا القراءة من شيء مكتوب لأن النبي كان أميا لا يقرأ ولا يكتب. ولذلك قال لجبريل: "ما أنا بقارئ". ونتفق في هذا مع بهل في مقالته بدائرة المعارف الإسلامية.
انظر Buhl, Encyclopedie de l'Islam, II, ١١٢٤ b
٣ قارن بتفسير الطبري ٣٠/ ١٦١.
٤ راجع فصل "ظاهرة الوحي". وقارن بصحيح البخاري ٦/ ١٠١.

<<  <   >  >>