للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

العذاب، باذلا أقصى ما يبلغه المجاهدون من التضحية دون من ولا استكثار١.

وتعالج سورة "التكوير" ثلاث حقائق لا تنقطع صلتها بالعقيدة والإيمان: حقيقة الانقلاب الكوني يوم القيامة, وحقيقة الوحي الخالد والدعوة العالمية, وحقيقة الإرادة الإنسانية المرتبطة بمشيئة الله العليم الحكيم٢.

أما الانقلاب الكوني فيبدو في مطلع السورة هائلا مروعا، يشتمل الشمس التي بردت وانطفأت شعلتها، والنجوم التي انتثرت وانطمس ضياؤها، والجبال التي نسفت وذريت هباء في الهواء وسيرت كالسراب، ومرت مر السحاب، والنوق الحبالى في شهرها العاشر وقد أهملت من الفزع في كل مكان, مع أنها لدى العربي أجود النياق, والوحوش الشاردة في الشعاب وقد تجمعت من الهول وتلاصقت منها الجنوب، والبحار التي التهبت مياههن حتى تفجرت بالنيران، وفاضت بالحمم والمحرقات، والأرواح المتجانسة وقد انضم بعضها إلى بعض في زمر وأزواج، والأنثى التي وئدت في غلظة يطرح عليها وحدها سؤال، وتخص وحدها بالاستجواب: ما سر وأدها؟ وكيف يكون إنسانا من أقدم على وأدها وهي على قيد الحياة؟

ويشمل هذا الانقلاب الكوني أيضا نشر صحف الأعمال حتى لا تخفى يومئذ خافية، وإزاحة السقف المرفوع في القبة الزرقاء، وتسعير الجحيم وإذكاء حرها بوقودها من الناس والحجارة، وتقريب الجنة من السعداء حتى لتبدو كالعروس في زينتها تغري خطيبها بالدنو منها والالتصاق بها واستنشاق عبيرها، فيومئذ تعلم كل نفس ما قدمت وأخرت، وما أحضرت معها من زاد يخفف عنها شيئا من العذاب!.

وتمهيدًا لذكر الحقيقة الثانية المتعلقة بالوحي وطبيعته، ينتقل السياق إلى


١ قارن بتفسير الطبري ٢٩/ ٩٠.
٢ انظر تفسير الرازي ٨/ ٣٣٧.

<<  <   >  >>