للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قسم رشيق أنيق بمشاهد من الكون خلعت عليها الحياة، وقذفت فيها الروح: فبالكواكب التي تجري في السماء ثم تعود للتوارى في أفلاكها كأنها الظباء تعدو رشيقة ثم ترجع إلى كنسها فتختبئ فيها وتلتمس الراحة بعد العدو الشديد، وبالليل الذي لف الكون بسواده حتى بات لا يرى نفسه ولا يبصر دربه، فهو يتخبط في سراه تخبط الأعشى، ويجس بيده كل شيء في الظلام مجسة الأعمى، وبالصبح الذي ولد بعد ذهاب الليل, فأبصر النور وتحرك، وتفتح قلبه للحياة فخفق وتنفس, بهذه المشاهد الكونية الحية أقسم الله: أن لا دخل لمحمد في الوحي، فإنما يلقنه إياه -بأمر ذي العرش- ملك كريم، له من القوة ما يمكنه من حمل أمانة السماء إلى أهل الأرض, وله من المكانة ما يجعله مطاعا من الملائكة جميعا في الملأ الأعلى.

وبهذه المشاهد الحية أيضا أقسم الله: إن محمدا أمين على الوحي، راجح العقل، وقد صاحبه أهل مكة أربعين عاما قبل البعثة فعرفوه وسموه الصادق الأمين، وها هو ذا الآن يخبرهم بأنه رأى ملك الوحي بعينيه في الأفق الواضح المبين الذي لا يزيغ عنده البصر ولا يطغى١، فكيف يظنون به الظنون؟ وكيف يزعمون أنه مجنون تتنزل عليه الشياطين؟


١ رغم هذه الدقة التامة في إبراز صفات ملك الوحي، وإيضاح التقاء النبي بهذا الملك التقاء لا ريب فيه، تطغى على بعض المستشرقين سطحية عجيبة في التفكير يثيرون بها شبهة حول سكوت القرآن في مكة عن ذكر اسم هذا الملك، ثم ذكره في المدينة مرتين باسمه الصريح "جبريل"، ملوحين بذلك إلى أثر يهود المدينة في التعريف بهذه الحقيقة الدينية, كأن العبرة بالأسماء لا بالمسميات، وكأن كل الأوصاف القرآنية المبكرة لملك الوحي في هذه الفترة المكية الأولى لم تشف غليلهم، أو كأنها تباين الأوصاف التي خلعت في الكتاب المقدس على ملك الوحي ولو أنصفوا لقدموا المسميات على الأسماء، والحقائق على الأشكال، واعترفوا بأن هذه الصفات الواضحة الصريحة لا تصدق إلا على جبريل، ولم يرتابوا في أن سر هذه الصفات أبلغ بيانا من تحديد الذات، وأدعى إلى تعريف الأميين بشيء من حقائق الوحي بالتدريج، أما يهود المدينة فلم يفاجأوا باسم جبريل في السورتين المدنيتين؛ لأن هذه الحقائق كلها معروفة لديهم، فلم يزد القرآن على أن صدقها وأقرها لأن ما ثبت لديهم منها فالقرآن لا يكذبه بل يهيمن عليه، ويصدقه بين يديه، وقارن بمقالة لودز
Lods, Recherches sur le Prophetisme israelite, dans la Revue de l'Histiore des Religions, Publiee a paris ١٩٢٢.

<<  <   >  >>