للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وفي هذا المقطع نفسه يذكر الله أهل مكة بأن هذا الوحي لم يوجه إليهم وحدهم، وما كان ليوجه إليهم وحدهم، بل هو دعوة عالمية١ لا بد أن تنتصر مهما يقاوموها الآن ويطاردوا المؤمنين بها. وباب هذه الدعوة مفتوح على مصراعيه لكل من أراد أن يستقيم على الحق والهدى.

أما الحقيقة الثالثة فقد ختمت بها سورة "التكوير" بآية واحدة حاسمة جازمة قررت بأن الإرادة الحقيقية الفاعلة هي إرادة الله، فما لأحد إرادة منفصلة عن إرادة العليم الخبير، بل هو الذي قدر فهدى، وألهم الإنسان إرادة بها يختار لولاها لما شرف بالتكليف.

وفي سورة "الأعلى"٢ تمجيد لاسم الخالق الذي أتقن كل شيء، ورسم له طريقه، وهداه إلى غاية وجوده, وعرض لبعض آثاره في خلقه حين قدر لكل دابة في الأرض رزقها من مرعى أخضر، أو غثاء ذاو ضارب إلى السواد، وكفالة ربانية بتحفيظ النبي القرآن ونقشه في لوح قلبه من غير أن يبذل شيئا من الجهد في حفظه, ومن غير أن يحتمل نسيان حرف واحد منه لأن الحفظ كالنسيان أمران متعلقان بالمشيئة الإلهية الطليقة من كل قيد، لا بالإنسان الذي يظل -مهما يسم- عرضة للسهو والنسيان، وبشري للنبي والمؤمنين بتيسيرهم لحمل هذه الدعوة اليسرى، والنهوض بأماناتها الكبرى، وتصوير لاختلاف وجهات الناس إزاء هذه الدعوة المباركة: فمنهم الذي يؤمن


١ لقد صرحت الآية في تلك الفترة المبكرة، من أول مرحلة في مكة، بأن هذه الدعوة الإسلامية عامة عالمية: فلا مجال لتفسير قوله تعالى هنا: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} بغير الذي ذكرناه من عالمية هذه الدعوة، ولا مجال أيضا للظن بأن ليهود المدينة أثرا في مثل هذه القضية، لأن العلماء جميعا متفقون على أن هذه السورة كلها مكية، بل من سور المرحلة الأولى في مكة قطعا. والمستشرقون أنفسهم لم يجدوا هنا فرصة للغمز كعادتهم، فقد رتبوا هذه السورة جميعا في أولى المراحل المكية، إلا أن بعضهم تساءل: هل يمكن أن تفيد لفظة "العالمين" هنا معنى العموم المحلي لا معنى العالمية؟ وهل تساوي مثلا لفظة "monde" في اللغة الفرنسية؟ واعترفوا رغم تساؤلهم بأن هذه الآية ذات شأن عظيم في توضيح سعة الآفاق الإسلامية.
انظر: Blachere, Trad., II., ٣٩.
٢ انظر تفسيرها في البيضاوي ١١/ ٣٩٨ والنسفي ٤/ ٢٦٠.

<<  <   >  >>