للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الموزونة المقفاة -بإيقاعها العجيب- تنساب أحيانا وتتموج، وتلهث أحيانا وتتهدج، وتقصف أحيانا وتدمر، وتصرخ أحيانا وتزمجر، وأن تجسيم المعنويات، وتشخيص الجوامد، وخلع الحركة والحياة والحوار على الأشياء الصامتة، قد أحالت مشاهدها لوحات فنية غنية بالأصباغ الحية.

وحين ننتقل إلى ما اخترنا تحليله مما صح لدينا أنه من المرحلة المكية المتوسطة, سنجد في زمرته كلها نظائر هذه الخصائص الموضوعية والأسلوبية، ففي كل سورة مثل تلك الأفكار والتعاليم، وفي كل سورة مثل تلك الصور والظلال، وفي كل سورة مثل تلك الأنغام والألحان، بيد أن زيادة بعض العقائد، أو إضافة بعض الحقائق، توشك أن تجعل من كل سورة على حدة -وليس من كل زمرة وحسب- منظومة علوية تملأ القلوب والآذان.

هذه مثلا سورة "عبس" -من المرحلة المكية المتوسطة, ومن أوائلها على وجه اليقين- تعالج حادثة من حوادث السيرة بتوجيه القلوب إلى حقيقة القيم, وحقيقة الحياة، وحقيقة الإنسان، وحقيقة الفزع الأكبر يوم القيامة. وتعالج السورة هذه الحقائق الضخمة بإيحاءات شديدة التأثير، ولمسات عميقة النفاذ، وصور وارفة الظلال، وفواصل قوية الإيقاع.

عبس النبي وأعرض عن ابن أم مكتوم، المؤمن الأعمى الفقير، وقد جاء يسأله أن يعلمه مما علمه الله. فليعقب القرآن على هذا الحادث الفردي، وليعتب على النبي عتابا شديدًا١، وليدعه إلى استبدال قيم السماء بقيم الأرض، وموازين الشريعة العادلة بمواضعات البشر الجائرة، وليجعل الله هذا الحادث درسا بليغا وتذكرة لا تنسى للنبي وللمؤمنين {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} ٢.


١ ارجع إلى فصل "ظاهرة الوحي" من هذا الكتاب.
٢ قارن بقول الزمخشري في "الكشاف ٤/ ١٨٥": " {كَلَّا} ردع عن المعاتب عليه وعن معاودة مثله {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} أي: موعظة يجب الاتعاظ بها والعمل بموجبها {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} أي: كان حافظا له غير الناس".

<<  <   >  >>