ليعرف المشركون إذن حدود قدرتهم، وليزدجروا عن غيهم، وليذكروا كيف أباد الله المكذبين الجاحدين وأنزل بهم الخسف والدمار، وليعلموا أن الخطر داهم، وأن مصرعهم قريب، وليسجدوا لله قبل أن يقذف بالحق على باطلهم، فتزهق أرواحهم وهم كافرون.
إن هذا لقليل من كثير مما انطوت عليه السور المكية في مرحلتها الأولى، أبينا أن نستخلص ما فيه من أفكار وعقائد وتعاليم إلا مما ثبت لدينا -بعد أن ثبت للعلماء المحققين- أنه حقا من أوائل الوحي. وتحليلنا لتلك لنوازل الأولى -وإن جاء خاطفا- كاف لإلقاء الضوء على الموضوعات المعروضة، والمشاهد المصورة، وكاف أيضا لتمييز هذه الزمرة القرآنية بخصائصها الأسلوبية عن الزمرتين المكيتين التاليتين، وعن الزمر المدنيات الثلاث ابتداء ووسطًا وختامًا.
وكان يسيرًا علينا أن نلاحظ -في سور هذه المرحلة الأولى كلها- أن الحديث عن الوحي والدين، ووصف قدرة الله وآثار رحمته، وتقرير النشأة الأخرى قياسا على النشأة الأولى، وتصوير مشاهد القيامة، وإنذار المشركين بمثل العذاب الدنيوي الذي أصاب المكذبين من قبل، وتأكيد فكرة المسئولية والثواب والعقاب، وتسلية النبي على ما يلقاه من اضطهاد قومه له بوصف ما لقيه إخوانه الرسل من قبل، والتصريح بوحدة الدين في أصول عقائده والتلويح بعالمية الدعوة المباركة وشمولها البشر جميعا، كادت تؤلف الموضوعات البارزة وإن عرضت بأساليب مختلفة، وإيقاعات موسيقية متباينة.
وإنه ليسير علينا كذلك -لو عدنا إلى هاتيك السور نفسها فقرأناها، واحدة واحدة- أن ندرك أن آياتها جميعا قصار، وأنها شديدة الإيجاز، وأن القسم فيها بمشاهد الكون كثير، وأن صيغ الإنشاء فيها من أمر ونهي واستفهام وتمن ورجاء تتخلل مقاطعها وتزيدها حرارة، وأن ألفظاها رشيقة منتقاة يسري التنقيم في أحرفها المهموسة تارة، المجهورة تارة أخرى, وأن فواصلها