للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويريد القرآن أن يعرض حقيقة الفطرة الإنسانية وهي قويمة سليمة، وحقيقتها حين تنحرف عن الصراط المستقيم، فيجعل سورة "التين" معرضا لهذا، وفي إطار من القسم ببعض الثمار المباركة والأماكن المقدسة١ يكرم الله الإنسان, ويمتنُّ عليه بتكوينه الفطري المقوم، وتصويره الجسمي المعدل, والارتقاء به جسدا وروحا إلى المقام الأسنى، ثم يلوح باستعداده للهبوط النفسي، والانحلال الخلقي، والانحدار إلى أسفل سافلين إلا إذا أضاءت له الفطرة مسالك الحياة، فبصرته بحقيقة الإيمان، ورغبته بصالح الأعمال، وانتهت به إلى الكمال، وأورثته جنات النعيم، فهل للإنسان بعد إدراك الحقيقة أن يطمس نور الفطرة، فيكذب بدين الله، ويتجاهل حكمة الله، وينساق مع غيه وهواه٢؟

وفي آيات مدوية رهيبة تقذف الرعب في القلوب يصور القرآن مشهدا سريعا من مشاهد القيامة يقفيه بمشهد الجزاء والحساب. وذلك في سورة "القارعة" التي تقرع بهولها كل شيء، حتى ليغدو الناس في غمراتها حيارى خفافا صغارًا كالفراش المتهافت لا يعرف لم يطير ولا أين المصير، وتمسي الجبال الرواسي هباء تذروه الرياح كالصوف المتطاير المنفوش، فليتوقع الإنسان في ذلك الهول المرهوب عيشة راضية إن أحسن عملا, أو نارا حامية وهلاكا أبديا إن أساء وكان شقيا.


١ الثمار المباركة إشارة إلى التين والزيتون، ولا سيما إذا كان المراد بهما منابتهما التي ترمز إلى جبل التين بجوار دمشق وجبل الزيتون في بيت المقدس، والأماكن المقدسة إشارة إلى طور سيناء ومكة البلد الأمين, والخلاف في التين والزيتون مشهور، بيد أنه يسعنا فيهما ما وسع إمام المفسرين الطبري إذ قال: "والصواب من القول في ذلك عندنا قول من قال: التين هو التين الذي يؤكل، والزيتون هو الزيتون الذي يعصر منه الزيت، لأن ذلك هو المعروف عند العرب. ولا يعرف جبل يسمى تينا ولا جبل يقال له زيتون، إلا أن يقول قائل: أقسم ربنا جل ثناؤه بالتين والزيتون، والمراد من الكلام القسم بمنابت التين ومنابت الزيتون" تفسير الطبري ٣٠/ ١٥٤.
٢ راجع في تفسير هذه السورة الدر المنثور للسيوطي ٤/ ٣٦٥ والرازي ٨/ ٤٣١.

<<  <   >  >>