وإن تتطاير الجبال الثقال يوم القارعة تطاير الصوف والهباء، فما أحوج الإنسان إلى الموازين الثقال تعوض خفته لئلا يتهافت كالفراش١.
وفي سورة "القيامة" يرسم القرآن الانقلاب الكوني الشامل الهائل في ومضات سريعة تأكيدا للبعث وردًا على منكريه، ويطمئن النبي إلى نقش الوحي في صدره فلا تدركنه العجلة التي أدركت البشر في حب الحياة الفانية، ويحدد بإيجاز شديد مصير السعداء ومصير الأشقياء، ويصور مشهد الاحتضار الذي كتب على كل حي, ويذكر الإنسان بنشأته الأولى ليقيس عليها نشأته الآخرة.
وتوطئة لتصوير الانقلاب الكوني يلوح الله بالقسم بيوم القيامة وبالنفس التقية اللوامة على أن البعث واقع والساعة آتية لا ريب فيها، وإذا كان الإنسان يستبعد جمع العظام وهي رميم فإن الله يقدر على ما هو أدق وأجل: إذ يسوي له أطراف أصابعه ويعيد تركيبها في مواضعها على اختلاف "بصماتها" وأشكالها، فعلام الفجور؟ ولم يستبعد الإنسان البعث والنشور؟
وتأكيد البعث بهذا الأسلوب القوي الذي يواجه القلب الغافل ويحاصره كان أصلح تمهيد بين يدي الانقلاب الكوني يوم يقوم الناس لرب العالمين: فما أسرع الانقلاب في كل شيء يوم القيامة! إن الإنسان الفزع القلق ليرى الكون كله مختل النظام ببصره الحائر الزائغ المتقلب، فما للقمر نور بعد أن طمس، ولا للشمس مشرق بعد أن اقترنت بالقمر، ولا للإنسان ملجأ يقيه الهول الشديد بعد أن سيق إلى الله ليحاسب على ما قدمت يداه!
والإنسان لم يستبعد البعث والنشور والحساب إلإ اتباعا للهوى، واحتفالا بالشهوات، واستعجالا لملذات الحياة، ولكن الحياة مهما تطل إلى زوال، فلا
١ قارن بقول الزمخشري في "الكشاف ٤/ ٢٣": "وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينهم يوم القيامة باتباعهم الحق وثقلها في الدنيا، وحق لميزان لا توضع فيه إلا الحسنات أن يثقل، وإنما خفت موازين من خفت موازينه، لاتباعهم الباطل وخفتها في الدنيا، وحق لميزان لا توضع فيه إلا السيئات أن يخف! ".