للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بمنطق الفطرة نشأتهم الآخرة، ألم يكن الإنسان ماء رقيقا مهينا؟ ألم يتحول هذا الماء دما متجمدا عالقا بجدران الرحم؟ أولم يتطور في هذا القرار المكين حتى أضحى جنينا به خصائص الذكر أو خصائص الأنثى؟ فهل يعجز عن إحيائه من خلقه من العدم؟ وهل يتركه خالقه الحكيم سدى؟ ألا تنطق الفطرة السليمة بوجوب البعث والنشور، وثواب المتقين وعقاب الفاجرين؟ ١.

وفي سورة "المرسلات" نمط خاص فريد في تصوير أجمل مشاهد الدنيا وأعنف مشاهد الآخرة، وأصدق حقائق الكون وأعمق أغوار النفس، في مقاطع شافية الفواصل، متعددة الأنغام، مصحوبة بقوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِين} يتكرر فيها عشر مرات كأنه لازمة الإيقاع، وتجيء هذه المقاطع، بسماتها الحادة العنيفة، متناسقة كل التناسق مع مطلع السورة الرهيب الذي أقسم الله فيه بالملائكة المرسلات على أن وعده بالآخرة واقع لا ريب فيه.

وفي القسم بالمرسلات غموض ملحوظ يتناسق مع عالم الغيب المقسم عليه، فكل ما فيه مغيب مجهول، وقد اخترنا أنهن الملائكة مخافة الخوض -في هذه العجالة- في الخلاف الطويل المشهور, فقد أقسم الله -وهو بقسمه أعلم- بالملائكة اللاتي يرسلهن متتابعات، فيعصفن عصف الرياح وهن بأمره ماضيات، فينشرن في الأرض شرائعه, ويفرقن بإذنه بين الحق والباطل بما يلقين إلى أنبيائه من وحي فيه إعذار إلى الخلق وإنذار٢!.


١ راجع في تفسير سورة القيامة الطبري ٢٩/ ١٠٨ وقارن بالكشاف ٤/ ١٦٣ والنسفي ٤/ ٢٣٥.
٢ قارن في تفسير هذا المطلع القسمي بين الطبري ٢٩/ ١٤٠ والرازي ٨/ ٢٨٨ والزمخشري ٤/ ١٧٣. وما اخترناه أقرب إلى رأي الزمخشري. ويلاحظ أن هذا الضرب من القسم إطار أدبي جميل لفصول بعض الكتب الدينية الشرقية, لما يوحي به -ولا سميا في المطلع- من رهبة المجهول؛ ولكن جمهور علماء المسيحية يرمون بالوضع والاختلاق كل كتاب ديني شرقي يفتتح شيء من فصوله بمثل هذه الأقسام الأدبية الموحية, كما رموا بالوضع "صلوات جلغوط Gologotha" التي نقرأ فيها: "والملائكة المرسلات في السحب تترى، الماضيات إلى الشمس قدما"، ونقرأ أيضا: "أورشليم، وجبل طابور، وطور صهيون وذرى الزيتون". "انظر ترجمة باسيه لهذه الصلوات باللغة الفرنسية ضمن "الآثار الحبشية الموضوعة": "Apocryphes etiopiens, Fasc, V, ٣٤, trad. fr. R. Basset وقد يكون لعلماء المسيحية الحق في إدراج هذه الصلوات والأقسام في سلك "الموضوعات التي لا أصل لها عندهم"، لأن الأثر القرآني فيها شديد الاحتمال وإن لم يقم عليه برهان قطعي أكيد.

<<  <   >  >>