وجها معينا ولا نهى أحدا عن كتابته، ولذلك اختلفت خطوط المصاحف فمنهم من كان يكتب الكلمة على مخرج اللفظ ومنهم من كان يزيد وينقص لعلمه بأن ذلك اصطلاح وأن الناس لا يخفى عليهم الحال. ولأجل هذا بعينه جاز أن يكتب بالحروف الكوفية والخط الأول, وأن يجعل اللام على صورة الكاف، وأن تعوج الألفات، وأن يكتب على غير هذه الوجوه، وجاز أن يكتب المصحف بالخط والهجاء القديمين، وجاز أن يكتب بالخطوط والهجاء المحدثة، وجاز أن يكتب بين ذلك.
وإذا كانت خطوط المصحف وكثير من حروفها مختلفة متغايرة الصورة, وكان الناس قد أجازوا أن يكتب كل واحد منهم بما هو عادته، وما هو أسهل وأشهر وأولى، من غير تأثيم ولا تناكر علم أنه لم يؤخد في ذلك على الناس حد محدود مخصوص، كما أخذ عليهم في القراءة والأذن، والسبب في ذلك أن الخطوط إنا هي علامات ورسوم تجري مجرى الإشارات والعقود والرموز، فكل رسم دال على الكلمة مفيد لوجه قراءتها تجب صحته وتصويب الكاتب به على أية صورة كانت.
وبالجملة فكل من ادعى أنه يجب على الناس رسم مخصوص وجب عليه أن يقيم الحجة على دعواه وأنى له ذلك! "١.
وإن رأي القاضي أبي بكر هذا لجدير أن يؤخذ به, وحجته ظاهرة، ونظره بعيد، فهو لم يخلط بين عاطفة الإجلال للسلف وبين التماس البرهان على قضية دينية تتعلق برسم كتاب الله. أما الذين ذهبوا إلى أن الرسم القرآني توقيفي أزلي فقد احتكموا في ذلك إلى عواطفهم, واستسلموا استسلاما شعريا صوفيا إلى مذاويقهم ومواجيدهم، والأذواق نسبية؛ لا دخل لها في الدين، ولا يستنبط منها حقيقة شرعية.
١ لقد أورد هذا النص ملخصا الزرقاني في "مناهله" ج١ ص٣٧٣-٣٧٤، ولكنه أتبعه بالرد عليه، وبنقول من آراء العلماء في تفنيده "٣٧٤-٣٧٨".