للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ} وهاتان الكلمتان جمعتا جميع عيوب خمر أهل الدنيا. وقوله عز وجل حين ذكر فاكهة أهل الجنة: {لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} جمع بهاتين الكلمتين جميع تلك المعاني"١. ولا يبعد أن يكون محمد بن زيد الواسطي "ت٦٠٣"٢ قد استفاد من كتاب الجاحظ وبنى عليه حين صنف كتابه "إعجاز القرآن" الذي لم يصل إلينا كذلك، وإنما وصل إلينا ما ينبيء عنه في "دلائل الإعجاز" لعبد القاهر الجرجاني٣ الذي نعلم أنه شرح كتاب الواسطي شرحين: أحدهما كبير سماه "المعتضد"، والآخر أصغر منه. ولقد كان عبد القاهر ذواقة للأسلوب القرآني, حتى أوشك أن يسبق عصره في بعض لمحاته الموفقة التي نفذ بها إلى إدراك الجمال الفني في كتاب الله. واستمع إليه وهو يفسر هذه الصورة البارعة في قوله تعالى: {اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} فسيعجبك منه بلا ريب حسه المرهف الدقيق وفهمه طريقة القرآن المفضلة في التعبير والتصوير. قال: "إن في الاستعارة ما لا يمكن بيانه إلا من بعد العلم بالنظم، والوقوف على حقيقته. ومن دقيق ذلك وخفيه أنك ترى الناس إذا ذكروا قوله تعالى: {اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} ٤ لم يزيدوا فيه على ذكر الاستعارة، ولم ينسبوا الشرف إلا إليها، ولم يروا للمزية موجبا سواها. هكذا ترى الأمر في ظاهر كلامهم، وليس الأمر على ذلك, ولا هذا الشرف العظيم، ولا هذه المزية الجليلة، وهذه الروعة التي تدخل على النفوس عند هذا الكلام لمجرد الاستعارة ولكن لأن يسلك بالكلام طريق ما يسند الفعل له في المعنى منصوبا بعده، مبينا أن ذلك الإسناد وتلك النسبة إلى ذلك الأول إنما كان من أجل الثاني, ولما بينه وبينه من


١ تاريخ آداب العرب للرافعي ٢/ ١٥٢، حاشية ١.
٢ راجع كشف الظنون ١/ ١٢٠.
٣ هوعبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد واضع أصول البلاغة، أشهر كتبه "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة" توفي سنة ٤٧١هـ "إنباه الرواة ٢/ ١٨٢".
٤ سورة مريم ٤.

<<  <   >  >>