بعنايتهم التي لم يحط بمثلها كتاب من قبل ولا من بعد، وأنهم درسوا كل شيء يتعلق به حتى بددوا أوقاتههم أحيانا با نظنه لا يخدم أغراضه في شيء.
وربما كان لزاما علينا -إزاء هذه العناية التي لا نعرف لها نظيرا- أن نقنع بالنتائج التي انتهى إليها سلفنا الصالحون، ونسلم بكل ما جاء في تصانيفهم تسليما.
ولو اكتفينا بذلك لما وسعنا أن نكشف الناقب عن وجه القرآن الساحر الجذاب، فإن منهج الدراسة القديمة لا يكافئ ما ينبغي لكتاب الله من تفحص كل جانب من جوانبه التي قامت حولها المدارس والمذاهب والآراء.
وأن نعرف للقدامى فضلهم الكبير، ونقل: إننا عالة عليهم في هذ البحوث، ما نزيد على التفقه بآثارهم، والاستضاءة بأنوارهم، لا يغضض من قيمة عرفاننا هذا ما نأخذه من مآخذ شكلية على منهجهم القديم: ذلك بأن طريقتهم من الوجهة التاريخية لا تضاهى دقة وعمقا وأمانة، ولكن المنهح التاريخي غلب على أبحاثهم القرآنية، فلم يفسح المجال دائما لتصوير الجانب الأدبي الفني الذي يسد الفجوات ويملأ الثغرات حين يكتم التاريخ بعض الحقائق الكبرى.
إن في تعريفهم لعلوم القرآن لما يبرز المعنى التاريخي في منهجهم واضحا قويا: فهذه العلوم -في نظرهم- عبارة عن مجموعة من المسائل يبحث فيها عن أحوال القرآن الكريم من حيث نزوله وأداؤه، وكتابته وجمعه، وترتيبه في المصاحف، وتفسير ألفاظه، وبيان خصائصه، وأغراضه: وفي أبحاثهم التفصيلية لمفردات هذا التعريف يشتد أثر المنهج التاريخي بروزا ووضوحا، فقد وافونا في نزول القرآن بمراحله كلها ابتداء ووسطا وختامًا، وصوروا لنا طريقة نزوله تصويرا دقيقا في الليل والنهار، والحر والبرد، والسلم والحرب، وكادوا لا يغفلون جزئية من الجزئيات الصغيرة في هذا المجال، ولم يعيهم أن يتقصوا النوازل القرآنية المنجمة على حسب الوقائع الفردية والاجتماعية؛ ولم نجد نظائر لمباحثهم في تحري جمع القرآن وحفظه واستنساخه في المصاحف وتحسين رسمه، وفي الاستيثاق من متواتر أحرفه السبعة، ومتواتر قراءاته فيما