ثبت لديهم من وجوهها القطعية اليقينية، ودلت طريقتهم التي اتبعوها في تمحيص الروايات وتحقيق النصوص في هذا كله على أنهم كانوا أقدر الباحثين على التحاكم إلى التاريخ الصحيح.
لكن انطوت مزيتهم الكبرى هذه على عيب شكلي بسيط: فإن استمساكهم بالمنهج التاريخي لم يترك لهم أحيانا الفرص الكافية لإيفاء الناحية الأدبية في القرآن ما هي خليقة به من العناية: جمعوا في "أسباب النزول" بين السبب التاريخي والسياق الأدبي في ثلة من المواطن ولكنهم لم يحسنوا دائمًا الجمع بين هذين الأمرين في سائر المواطن الأخرى، حتى بات الباحث يتساءل مرارا: لم وضعت هذه الآية إلى جنب تلك؟ ولم قفي هذا الموضوع بذاك رغم الفاصل الزمني البعيد؟ ثم لا يجد لديهم جوابا شافيا عن ذلك، على كثرة ما رووه في هذا وصنفوه.
لذلك لن نكتفي في بحث "أسباب النزول" بعرض أنماط من مقاييسهم الدقيقة التي وضعوها لترجيح الروايات المنبئة عن تلك الأسباب، بل سنضم إلى ذلك ما وشت به عبارات مبثوثة هنا وهناك -في تفاسير المحققين منهم- من رعاية لنظم القرآن وحسن السياق، فنسهب في الاستشهاد ببعض المقاطع القرآنية التي أقصى فيها المفسرون فكرة الزمان لمراعاة التناسق الفني، حتى بدا كل نص في القرآن محكم البناء، متلاحم الأجزاء، آخذا بعضه بأعناق بعض؛ فبهدا نعرف عن كل آية: أمكملة لما قبلها أم مستقلة؟ وما وجه مناسبتها لما قبلها؟ إن جاءت على سبيل الاستئناف؟
وإننا لنحمد لعلمائنا الأبرار القدامى انتباههم إلى تعدية الآيات إلى غير أسبابها, وقولهم بتعميم الصياغة ولو وقعت الآيات على سبب خاص، غير أننا نرى أن عيونهم قد أخطأت أحيانا ما رسمه القرآن من "نماذج" إنسانية تتخطى الزمان والمكان، وتتجاوز المناسبات والأسباب، فعلينا إذن -خدمة للجانب الفني في القرآن- أن نملأ ذلك الفراغ بما نرجو أن يلهمنا الله التقاطه من الصور الشاخصة والمشاهد المتكررة في عالم الأحياء.