وما نحسب باحثا يرتاب في أن علماءنا القدامى قد محصوا ما يتعلق بالمكي والمدني كل التمحيص, وأن بعض المحققين منهم -في طائفة من أبحاثهم- مهدوا بين أيدينا القول بتقسيم النوازل المكية ثم المدنية إلى مراحل ثلاث:
ابتدائية ومتوسطة وختامية، إلا أنهم شغلوا بمتابعة جزئيات تلك المراحل أكثر مما احتفلوا بإبراز ما انطوت عليه كل مرحلة من عقائد وأحكام, وما سرى في ألفاظها وفواصلها من إيقاع وما غلب على صورها ومشاهدها من أساليب، فسنحاول بدراستنا هذه أن نتقرى في القرآن نفسه كل هاتيك الملامح فيما سوف يجده القارئ بنفسه في فصل "المكي والمدني" ولا يفوتنا أن نشير إلى أن الطالب الذي يود لو يطلع على "نماذج" من التحليل البياني لبعض السور القرآنية سوف يجد في هذا المبحث ذاته طلبته في عشرين سورة مفسرة موضوعاتها وأساليبها على حسب تعاقبها في النزول، واقعة موقعها التاريخي من مراحل التنزيل.
وما نحسب أن التوفيق حالف طائفة من القدامى غلت أعجب الغلو في بحث "الناسخ والمنسوخ" فإنهم فيه أكثروا من الخلط بين المفهومات، والتبس على كثير منهم ما ينسبه الله إلى نفسه بما عسى أن ينسبه البشر إليه أو إلى أنفسهم فلم يفرقوا بين النسخ والتخصيص، وبين النسخ والبداء، وبين النسخ والإنساء، وبين نسخ الأحكام ونسخ الأخبار, ولسوف يحملنا غلوهم وخلطهم على أن نتعالى بكلام الله المتواتر المعجز عن أقاويلهم الغريبة التي تعارض منطق الأشياء.
وإن إعجابنا الشديد بكثير مما تناول به سلفنا قضية الإعجاز لن يمنعنا من أن نجري في مفهوم هذه القضية شيئًا من التعديل، لنسمو بدرس الأسلوب القرآني من أفق المصطلحات البلاغية الضيق إلى أفق الفن الأدبي الرفيع: ففي بحث الإعجاز سنفهم الصور البيانية فهما موحيا فيه نداوة الفن وظل الأدب الظليل، وسنتلقى بمشاعرنا كلها موسيقى القرآن الداخلية التي فيها من النثر تعبيره الدقيق، وفيها من الشعر إيقاعه الرخي المنساب!