وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن يوسف ذا نواس لما انتقل الملك إليه ظهر له الحسد من بعض قومه وبلغه عنهم قوارص مما يلفظون به ويخوضون فيه من أمره، قال فأقبل عليهم وقال: يا أيها الناس، ما من رئيس حقد فأفلح، ولا من رائم أمر يستعجل فيه فأنجح، ألا وكأني بمن يقول: إن يوسف ذا نواس ملك هذا الأمر وليس من ورثته ولا من أبناء من حازه من قبله. وكلا، ليس الأمر كما زعم الزاعم، ولكن للملك أساس، من حازه حاز الملك.
ثم أنشأ يقول: " من الوافر "
أساسُ المُلكِ ويحكُمُ رِجَالٌ ... إذا ما المُلكُ زالَ عنِ الأساسِ
بلِ المُلكُ الأثيلُ لهُم مُثنَّى ... وفيهم كل ذي عزٍّ وباسِ
ومنْ يُعطِ الرِّجالَ ... ويُطعنَ دونهُ يومَ الحماسِ
ينالُ بها من الدُّنيا الذِي قد ... حواهُ المرءُ يوسفُ ذُو نُواسِ
فَكَمْ من تاجِ مُلكٍ قد رأيتُمْ ... تحوَّلَ من أُناسٍ في أناسِ
ألا يا للقبائِلِ أنصِتُوا ليْ ... لأُخبركُم فإنَّ الطَّبَّ آسِ
وإنَّ وصيتيْ ما زِلتُ قِدماً ... لها يا للقبائلِ غيرَ ناسِ
أطيعُوا الرَّأسَ مِنكُمْ كي تسُودُوا ... وهل ذنبٌ يَسُودُ بغيرِ راسِ
فإنَّ النَّاس مِثلُ الأرضِ أرضٌ ... وإنَّ مُلُوكهمْ مثلُ الرَّواسيْ
ولولا الرَّاسياتُ إذاً لمادتْ ... روابيْ الأرضِ حقَّاً
وأجناسُ الرَّواسي الشُّمِ ستٌّ ... فذو تبرٍ يصانُ وذو نُحاسِ
وذو ماءٍ وذُو زرعٍ وضرعٍ ... وذو ثقلٍ كأمثالِ
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن ذا رعين واسمه يريم بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس أقبل على أهل بيته وولده، وكان عُمِّر عمراً طويلاً حتى ضعف بصره وقصر خطاه وكلَّ سمعه، فقال لهم: يا بني، قد حفظت من وصايا الأوائل من أسلافي، وسلكت مسلك آبائي وأجدادي، وأفادني الدهر بالكبر والشباب من الأدب والزيادة في المعرفة ما يصلح به المرء دنياه ومعيشته فيما اشتهى فيها، وما يحيي به المآثر والمفاخر والمكارم أكثر مما أورثني الآباء والأجداد من ذلك.
وأنشأ يقول: " من الوافر "
لئن أمسيتُ لا آلو نهوضاً ... وأنَّي يا بنيَّ كما تروني
كبرتُ وهدّني مرُّ الليالي ... وصرتُ من الزَّمانِ إلى الرمين
وودّعني الشبابُ ودقَّ عظمي ... فلستُ أنوءُ إلا باليدينِ
وأصبحَ كالمُبيردِ عظمُ ساقي ... ولازمني ارتعاشُ الركبتينِ
وأظلَم ما على عينيَّ مما ... تهدّلَ من سُقوطِ الحاجبينِ
فما ذمَّتْ بنو قحطان يوماً ... إذا ذكرتْ مساعي ذي رُعينِ
نشأتُ مع الملوكِ وكنتُ فيهم ... أسوسُ لهم أمورَ الخافقينِ
وكنتُ لمعشري إذ كنتُ ركناً ... وزيناً في الحوادثِ غيرَ شينِ
بنيَّ وإخوتي إن حانَ يوميْ ... وشاهدتمْ مع الأشهادِ حيني
سبيلي في العشيرةِ فاسلكوهُ ... لتحمدهُ العشيرةُ بعد عيني
ولا تسمُوا لمجهلةٍ فتغووُا ... غوايةَ ساقطٍ ما بينَ بينِ
فإنَّ العقلَ مفتاحُ المعالي ... وإن الجهلَ شينُ غيرُ زينِ
وحدثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن ذا مقار أقبل على عشيرته وولده، فقال لهم: ما الاثنان منكم وإن قرب أمرهما مثل الواحد وإن عظم أمره، اجتمعوا تعزُّوا، ولا تتفرقوا فتذِلُّوا، فإن القداح واحدها يهون كسره، والاثنان منها يصعب أمرهما وكسرهما، والثلاثة منها يمتنع عن الكسر، ثم أنشأ يقول: " من البسيط "
ما يغلِبُ الواحدُ الاثنينِ في سببٍ ... ولا يحيدُ عن النَّجدِ الضعيفانِ
ما ساعدٌ أبداً كالساعدينِ وإنْ ... لم يبلُغاهُ ولا كالقدحِ قدحانِ
فردُ الرِّجالِ ذليلٌ لا نصيرَ له ... وذُو الشَّراكة في عزٍّ وسلطانِ
إن القِداح إذا لا ويتهُنَّ معاً ... عزَّتْ ولما تحُكْ فيها الذِّراعانِ
ولا تقرَّ إذا ما إن فرَقتَ لها ... تحتَ الرَّواجبِ من مثنى ووحِدانِ
هاتا ضزبتُ لكُمْ قومي بِها مثلاً ... وقد عِلمتم لكُمْ سِرِّيْ وإعلاني
أُوصيكُمُ بالَّذي ما للرِّجال بهِ ... أوصى الأوائِلُ من أملاكِ قحطانِ