فإنَّ في العِزِّ الأمورُ المُرغِبهْ ... وصاحِبُ العِزِّ رفيعُ المرتبهْ
يرفعُ أقصى قومِهِ وأقربَهْ ... والعِزِّ في أربعةٍ مُنسَّبهْ
في كرمٍ للمرءِ يعلُو حسبهْ ... ونجدةٍ حاضرةٍ مُوَثَّبهْ
ولُغةٍ مسمُوعةٍ مُعرَّبهْ ... ورأيِ صدقٍ حيثُ أرسَ أرسبهْ
فهُنَّ ما إنْ هُنَّ إلا موهِبهْ ... بنيَّ ما أسنى الغِنى وأهذبه
وما أجلَّ ذِكرهُ وأرغبهْ ... وما ألذَّ طعمهُ وأطيبهْ
تحير الناس من أمر سُلِبَهْ ... ومن حوى مرغوبه واكتسبه
لا سيَّما إن كانَ ممن قرَّبهْ ... لفكِّ عانٍ أو لضيفٍ ندبهْ
أو لزمانٍ ماحِلٍ ذي مصعبهْ ... تُطعِمُ في لأوائِهِ ذا مقربهْ
والبائسَ المُعترَّ أو ذا متربهْ ... وإنْ دعا الدَّاعي لأمرٍ أرعبهْ
من حادثٍ هرَّ بهِ وأرهبهْ ... قرَّبَ للدَّاعِي السَّميعِ سلهبهْ
شدَّ عليهِ للِّقاءِ مَركَبَهْ ... وشدَّ من بعدِ الحِزامِ لببهْ
ثمَّ استوى من فوقِهِ وقرَّبه ... نحوَ الوغى مقتلب مشطبه
مُعتقِلاً للطَّاعنينَ سلبهْ ... يأثم من جمع العدو مقنبه
حيثُ يرى جُمهُورهُ وموكِبهْ ... رامَ البِرازَ مُعلِناً وانتدبَهْ
حتّى إذا صاحَ بهِ من طلبهْ ... انهدَّ كالليث لهُ فأعطبهْ
بِطعنةٍ فاغِرةٍ مُنتعبَهْ ... يركبُ مِنها رأسهُ ومنكبَهْ
ذالِكُمَا العاليْ رفيعُ المنقبهْ ... يأملُهُ الحيُّ ويخشى عصبهْ
وهو فيحيي حشد أم أربهْ
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال: إن الأوس والخزرج حفظا وصية أبيهما هذه، وثبتا عليها، وعملا بها وكذلك أولادهما من بعدهما وأولاد أولادهما. وتقول العرب: حوت الأوس والخزرج خصالاً لم يسبقها إليها أحد قبلها، ولا جمعت العرب بعدها، وهي العز والكرم الوفاء والنجدة واكتساب الحمد من حيث ينال. وفي ذلك لبعض العرب يمدح رجالاً منهم، فقال:
رأيتُ أبا عمروٍ أُصيحةَ جارُهُ ... يبيتُ قريرَ العينِ غيرَ مروَّعِ
ومَنْ يأتِهِ من خائِفٍ نالَ أمنهُ ... ومن يأتِهِ من جائِع البطنِ يشبَعِ
خصائِلُ كانت في الجُلاحِ قديمة ... خصائِلُ إن عُدَّ الخَصائِلُ أربعُ
وفاءٌ وتشريفٌ وعِزٌّ ونجدةٌ ... يدينُ لها هذا الأنامُ ويخضعُ
[وصية أفصى بن حارثة]
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر - وهو أبو خزاعة - وصّى بنيه فقال لهم: يا بنيَّ، إن الرائد لا يكذب أهله، والعالم لا يستحسن جهله، يا بني إن الحكم زرع في القلوب، ومثلها كمثل الحب، مهما زرع منه في أراضي حريمه نما نباته وزكا حصاده، ومهما زرع منه في ... أو سبخة أخبث نباته ولم يرج حصاده. فهذا لتعلموا أن الطيب لا يقبله إلا الطيب، ولا ينمو إلا عند مثله. يا بني، اجتهدوا في خمسة أشياء تعزوا بها وتسودوا، واجتهدوا في إماطة العدو ونصرة الصديق وكرامة الضيف واصطناع العشيرة وتوسيط المستجير وبلوغه ما أمّل. بذلك آمركم، وعما يخالفه أنهاكم. ثم أنشأ يقول:
أبنيَّ إنَّ وصَّيتي فيها لكُم ... ما تُدرِكُونَ بهِ المكارِمَ فاعلمُوا
لا تِعدلُوا عنها لأُخرى ما بدتْ ... للَّيلِ في أُفقِ السَّماءِ الأنجمُ
أبنيَّ إنَّي قد كبِرتُ وخانَني ... ريبُ الحوادِثِ والزَّمانُ الأزلم
أبنيَّ أنتُمْ في بلادٍ جُلُّها ... بعدَ العمالِقةِ الأوائلِ جُرهُمُ
والحيُّ جُرهُمُ لا يُلائمُكُم بها ... إذ طابَ مسرحُهَا وطابَ المجثَمُ
بلدٌ يهِيم السَّرح فيها آمناً ... والطَّيرُ فيها والأواتك تسلمُ
فيهَا المشاعِرُ والعَلاماتُ الَّتي ... نَصبَ الخليلُ بهِ النَّبيُّ الأكرمُ
والبيتُ بيتُ اللهِ والحِجرُ الَّذي ... من دُونِهِ تلكَ القليبُ الزَّمزمُ
ولسوفَ يُسفكُ مِنكُمُ فيهِ ومِنْ ... أحياءِ جُرهُمَ يا بنيْ أفصَى الدَّمُ
فمتى غُشيتُم مِنهُمُ بظُلامةٍ ... من بعدِ أُخرى مِثلهَا فلتعزِمُوا
أن تصبحُوها بالقواضِبِ والقَنَا ... منهم أظلمُ