ويقال: إنه لما خرج عمرو بن عامر بكلية قومه الأزد من أرض مأرب في كافة ولده، وخرب سد مأرب، وتعطلت الأعمال التي تقلدها عمرو بن عامر، واشتغلت ملوك كندة بأعمالها التي كانت تتولاها من الأطراف والثغور وقبائل العرب، وكذلك اشتغلت مذحج وهمدان بما في أيديهما من البلاد والأعمال، وبعدت لخم وجذام، واشتغلت ببلادهما وبما هما فيه من مقاساة الأطراف والثغور، وصارت أولاد نصر بن الأزد في أرض فارس وجانب الشحر - وهم عشيرة الجلند بن كركر وقد تقدم خبره في هذا الكتاب - وانتشرت قضاعة في الشام وأكناف الحجاز، ونزلت في الحجر منهم عذرة، وفي جنبها ورضوى نزلت جهينة. قال: وأقبلت أولاد عمرو بن عامر تلتهم البلاد التهاماً، تشق العرب بطناً بطناً لا يدخلون بلداً إلا غلبوا أهل ذلك البلد عليه. أما خزاعة فغلبت جرهم على مكة، وأما الأوس والخزرج فغلبوا اليهود على المدينة، وأما المناذرة فغلبوا أهل العراق على العراق. وأما جفنة فغلبوا أهل الشام على الشام وملكوها. وأما ولد عمران بن عامر فغلبوا أهل عمان عليها. إلا أن الجميع من هؤلاء في طاعة الملوك من حمير، وذلك عند انتقال الملك من يشدد بن زرعة إلى ابن عمه الحارث الرائش، وخبره قد تقدم في هذا الكتاب. وهو أبو التبابعة السيارة في شرق البلاد وغربها، وخبره قد تقدم، وكذلك أخبار المثامنة قد تقدمت في هذا الكتاب.
[وصية عمرو بن عامر]
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي أن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس لما حضرته الوفاة جمع بنيه وقومه فخطبهم وأوصاهم - وكان قد مضى له من العمر ثمانمئة سنة، منها أربعمائة سنة سيداً شريفاً، وأربعمئة ملكاً مملكاً - فقال لهم: قد أسمعكم الداعي ونفذ فيكم البصر ولزمتكم الحجة، وانتهى بكم الأمر إلى حد الرجاء، ومرجو حسن القضاء، فليس أحد أعظم في خلقه رزية ولا في أمره بلية ممن ضيّع اليقين وغره الأمل، وإنما البقاء بعد الفناء. وقد ورثنا من كان قبلنا وسيرثنا من يكون بعدنا، وقد حان الرحيل من محل زائل وظل مائل، ألا وقد تقارب سبب فاحش وخطب جليل فاستصلحوا ما تقدمون عليه، وارضوا بالباقي خلفاً من الفاني سلفاً، وأجملوا في طلب الرزق، واحتملوا المصائب بأحسن الاحتساب تستجلبوا النعماء. واستديموا الكرامة بالشكر قبل العجلة إلى النقلة وانتقال النعم ودول الأيام وتصرف الحالات، فإنما أنتم فيها أهل للمصائب وطريق للمعاطب، فاتنهوا، ودعوا المذاهب في هذه الغرّارة الضرّارة أهلها، في كل يوم لهم جرعة شرق، ومع كل أكلة غصص. ولن تنالوا فيها نعمة إلا بفراق أخرى، فأنتم الخلف بعد السلف، تفنيكم الدهور والأيام، وأنم أعوان الحتوف، وعلى أنفسكم وفي معاشكم أسباب مناياكم، لا يمنعكم شيء منها، ولا يغنيكم شيء عنها. في كل سبب منكم صريع ومعترف. وهذان الليل والنهار لم يرفعا شيئاً إلا وضعاه، وهما جديران بتفريق ما جمعاه. أيها الناس اطلبوا الخير ووليه واتركوا الشر ووليه، واعلموا أن خيراً من الخير عامله، وأن شراً من الشر فاعله. ثم التفت إلى بنيه وأنشأ يقول:
تجدَّدَ لحمي يا بنيَّ وأقشعتْ ... سحائِبُ جهليْ واسترحتُ عن العذلِ
وودَّعتُ إخوانِي الشَّبَاب وغرَّنِي ... غوايَ وعرَّيتُ المطيَّة من رحْلِ
وأصبَحتُ أخطُو أسبُرُ الأرضَ بالخُطا ... دبيباً كما يَخطُو المُقيَّد بالغلِّ
وقدْ كُنتُ غَضَّاً في الشَّبابِ وعيشهِ ... كَلَدنٍ من الخَطِّي أو مُرهَفٍ نصل
أجدُّ وأُمضِيْ في الأمورِ إذا دحت ... قوَادحُها بالعَزمِ والجِدِّ لا الهزلِ
فلمَّا رأيتُ الدَّهرَ ينقُضُ مِرَّتي ... كما انتقضتْ بعدَ القُوَى مِرَّةُ الحبلِ
فَزِعتُ إليكُمْ بالوصَّيةِ فاحفظُوا ... وصاتِي وبادرتُ التَّغيُّر مِنْ عَقلِيْ
بنيَّ حلبتُ الدَّهرَ بالدَّهرِ بُرهةً ... وذُقتُ بِهِ طَعمَ الممرِّ مِنَ المُحلِيْ
وقايستُ أخلاقَ الرِّجالِ فلم أجِدْ ... لذي شرفٍ فيها عُلُوّاً مع البُخلِ
ولمْ أرَ مثلَ الجُودِ داعٍ إلى العُلا ... ولا كالنَّدى داعٍ إلى شرفٍ معلي
وأدركَ عُمرِي السَّدَّ قبلُ انهدامِهِ ... وعهدِيْ به إذ ذاكَ مُجتمِعُ الشَّملِ