فأمَّننِيْ ممَّا خشيتُ ولم تزلْ ... بهِ تنجلِي عنَّا الأمُورُ الرَّوائعُ
وأَطلقَ لي عُونَاً وعذراً كأنَّها ... وقد أقبلتْ تمشِيْ الظِّباءُ الرَّواتِعُ
فِداءَ لهُ عدوانُ طُرَّاً وغيرُها ... ألا ونأَى عَنهُ الرَّدى والفجائِعُ
هوَ المَلِكُ البَرُّ السَّميذعُ والَّذي ... نَمَتهُ المُلوكُ الأكرمُونَ السَّماذِعُ
لهُمْ أوَّلُ الدُّنيا وحادِثُها لهُمْ ... وآخِرُهَا فيهِمْ معَ المُلكِ رَاجِعُ
[وصية عمرو بن الحارث]
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن عمرو بن الحارث وصى ابنه الحارث الخطّار الذي كانت تسميه العرب الحارث الأعرج قال: وكان عمرو بن الحارث كاهناً، يخبر بالكوائن، وينذر منها، فأنشأ يقول: " من البسيط "
يا حارِ إنِّي أرى دُنيايَ صائِرةً ... منِّي إليكَ وقد قامَتْ على ساقِ
غداً ستجتازُها دُونِيْ وتَملِكُهَا ... إنْ يأذنِ اللهُ لي فيها بتفراقِ
ما يقتِنيْ المُلكَ إلاَّ من تبوَّأهُ ... عندَ النَّوائِبِ مِنْ ماضٍ ومن باقِ
والنَّاسُ سرحُ رِباعٍ والمُلوكُ لهُمْ ... ما بينَ راعٍ وحفَّاظٍ وسوَّاقِ
ولا يحُوطُ ولا يرعَى الأنامَ سوى ... من في ذُرَى المجدِ عالٍ في العُلى راقِ
ماضِي العزيمةِ ذي حَزْمٍ وذي فِطنٍ ... مُوفٍ لدى العقدِ من عهدٍ وميثاقِ
تفِيضُ كالبحرِ ذي الأمواجِ راحتُهُ ... بنائِلٍ مُستهِلِّ السَّيبِ دفَّاقِ
فإنْ ألمَّتْ عوانٌ للحُرُوبِ وقى ... مِنها الَّذي لا يقيهِ دافِعٌ واقِ
بذابلٍ من قنا الخطِّيِّ يقدمُهُ ... وصارمٍ كشُعاعِ الشَّمس برَّاقِ
هيَ الوصِيَّةُ فاحفظهَا كما حُفِظَتْ ... لِلمُلكِ عن كُلِّ فَتَّاقٍ ورتَّاقِ
قال محمد بن علي: قال الدعبل بن علي: فيقال: إن الحارث الأعرج حفظ الوصية، وعمل بها، وثبت عليها، وملك بعد أبيه عمرو بن الحارث ما كان يملك من البلاد وقبائل العرب، وهو الذي ذكره النابغة في شعره الذي مدح فيه ابنه عمرو بن هند حيث يقول:
عليَّ لعمروٍ نِعمةٌ بعدَ نعمةٍ ... لوالدِهِ ليستْ بذاتِ عقاربِ
حلفتُ يميناً غيرَ ذِي مثنويَّةٍ ... ولا عِلمَ إلاّ حُسنُ ظنٍّ بغائبِ
لئِن كانَ بالقبرينِ قبرٍ بجلِّقٍٍ ... وقبرٍ بصيداءَ الَّذي عندَ حاربِ
وما الحارثُ الجفنيُّ سيِّدُ قومهِ ... لملتمسٍ بالجمعِ أرضَ المُحاربِ
على عارفاتٍ للطِّعَانِ عوابسٍ ... بهِنَّ كُلُومٌ بينَ دامٍ وجالبِ
إذا استنزِلُوا عنهُنَّ للموتِ أرقلُوا ... إلى الموتِ إرقالَ الجمالِ المصاعبِ
ولا عيبَ فيهمْ غيرَ أنَّ سُيُوفهُمْ ... بِهنَّ فُلُولٌ من قراعِ الكتائِبِ
ويقال: إن القبرين الذين ذكرهما النابغة، أحدهما قبر جفنة بن مارية، والآخر قبر الحارث الأكبر بن ثعلبة بن جفنة. وأما قبر عمرو بن الحارث ففي خلان من أرض الشام، وقد ذكره النابغة في شعره حيث يقول:
وآب مصلوه بغير جليَّةٍ ... وغودر في خلان حزمٌ ونائلُ
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن الحارث الأعرج بن عمرو بن الحارث الأكبر وصَّى ابنه أبا منذر واسمه عمرو المحرق بن هند. وهند بنة عوف الشيباني، أمها البرصاء بنة مرّة فقال: " من البسيط "
يا عمرُو دُونَكَ أرضَ الشَّام دُونكهَا ... يا عمروُ إنَّ لها شأناً من الشَّانِ
يا عمرُو فيها لكَ المُلكُ الَّذي ملكتْ ... أولادُ جفنةَ من أولادِ غسَّانِ
لا تكذبنَّ فخيرُ القولِ أصدقُهُ ... والمرءُ يكذِبُ في سرِّ وإعلانِ
ما مِثلُ مُلكِكَ مُلكٌ حازَهُ ملِكٌ ... من نسلِ حميرَ أو من نسلِ كهلانِ
إلاَّ التَّبابِعةُ الغُرُّ الَّذين لهُمْ ... كانتْ تدِينُ مُلوكُ الإنسِ والجَانِ
أبناءُ قيصرَ قدْ كانتْ تدينُ لهُمْ ... وكانَ دانٍ لهُم كِسرى بنُ ساسانِ
إنَّ المُلوكَ رُعاةُ النَّاسِ حينَ لهُمْ ... ما كانَ في الأرضِ من عِزٍّ وسُلطانِ
كُنْ خيرَ راع إذا استرعاكَ ربُّهمُ ... إياهُمُ ولنا كُنْ خَيرَ ما ثانِ