قال: فلما سمع سيف بن ذي يزن هذا الكلام من عبد المطلب بن هاشم أقبل عليه بوجهه، فقال له: أيهم أنت أيها المتكلم؟ قال: أنا عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. قال: فقال سيف بن ذي يزن: ابن أختنا؟ قال: نعم. قال: فقال سيف بن ذي يزن: ادن إلي يا عبد المطلب بن هاشم. ثم أقبل عليهم جميعاً فقال لهم: مرحباً وأهلاً، وناقة ورحلاً، ومستناخاً سهلاً، وملكاً رِبحلاً يعطي عطاء جزلاً. قد سمع الملك مقالتكم، وعرف قرابتكم وقبل وسيلتكم، فأنتم أهل الليل والنهار، ولكم الكرامة ما أقمتم، والحباء إذا ظعنتم. ثم انهضوا إلى دار الضيافة والوفود. قال: فأقاموا شهراً لا يصلون إليه، ولا يؤذن لهم بالانصراف. قال: وأجريت عليهم الأنزال. فلما كان بعد فراغ ذلك الشهر انتبه لهم سيف بن ذي يزن انتباهة، فأرسل على عبد المطلب بن هاشم فأدناه وأخلى مجلسه. ثم قال له: يا عبد المطلب، إني مفضٍ إليك من سر علمي أثراً لو يكون غيرك لم أبُح له به، ولكني وجدتك معدنه، فأطلعتك عليه، فليكن ذلك عندك مطوياً حتى يأذن الله فيه، فإنه بالغ فيه أمره، فإني وجدت في الكتاب المكتوب والعلم المخزون الذي اخترناه لأنفسنا واحتجبناه دون غيرنا خبراً جسيماً وخطراً عظيماً، فيه شرف الحياة وفضل الممات، للناس عامة، ولرهطك كافة، ولك خاصة. فقال عبد المطلب: أيها الملك مثلك سر وبر، فما هو فداك أهل الوبر والمدر، زمراً بعد زمر؟ قال: فقال سيف بن ذي يزن: إذاً ولد بتهامة غلام به علامة، له الإمامة، ولكم به الزعامة إلى يوم القيامة. قال: فقال عبد المطلب بن هاشم: أبيت اللعن لقد أبت بخبر ما آب به وفد قوم، ولولا هابة الملك وإعظامه وجلالته لسألته من إشارة إياي ما أزداد به شرفاً، فإن رأى الملك أن يخبرني بإفصاح فقد وضح لي بعض الإيضاح. قال: فقال سيف بن ذي يزن: هذا حينه الذي يولد فيه، أو قد ولد، اسمه محمد، بين كتفيه شامة، يموت أبوه وأمه، ويكلفه جده وعمه، قد ولدناه مراراً، والله باعثه جهاراً، وجاعل له منا أنصاراً، تعز لهم أنصاره، وتذل بهم أعداؤه، ويضرب بهم الناس عن عرض، وتستفتح بهم كرائم الأرض، يعبد الرحمن، ويزجر الشيطان، ويكسر الأوثان، ويخمد النيران، قوله فصل، وحكمه عدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهي عن المنكر ويبطله. قال: فخرَّ عبد المطلب ساجداً. فقال: له سيف بن ذي يزن: ارفع رأسك، فقد ثلج صدرك وعلا كعبك، فهل أحسست من أمره شيئاً؟ قال: نعم أيها الملك، كان لي ولد، وكنت به معجباً جذلاً، وعليه رفيقاً، فزوجته كريمة من كرائم قومي، يقال لها آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، فجاءت بغلام سميته محمداً، مات أبوه وأمه، وكفلته أنا وعمه، بين كتفيه شامة، وفيه كلُّ ما ذكرت من العلامة. قال: فقال سيف بن ذي يزن: والبيت ذي الحجب، والعلامات على النقب، إنك يا عبد المطلب لجده غير الكذب، وإن الذي قلت لك ما قلت فاحتفظ بابنك، واحذر عليه اليهود، فإنهم له عدو، ولن يجعل الله لهم عليه سبيلاً. واطوا ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك، فإني لست آمن أن تدخلهم النفاسة من أن تكون لك الرئاسة، فيبغون لك الغوائل، وينصبون لك الحبائل، وهو فاعلون ذلك وأبناؤهم، ولولا أن الموت مجتاحي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتى أُصَّير يثرب دار مملكتي، فإني أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق أن مدينة يثرب استحكام أمره فيها، وأهل نصره وموضع قبره. ولولا أني أقيه الآفات وأبقي عليه العاهات لأوطأت أسنان العرب كعبه ولأعلنت على حداثة سنه ذكره، ولكني صارف ذلك إليك بغير تقصير بمن معك.
ثم أمر لكل رجل منهم بمائة من الإبل وعشرة أعبد وعشر جوار وعشرة أرطال تبر وعشرة أرطال فضة وكرش مملوء عنبراً، وأمر لعبد المطلب بن هاشم بعشرة أضعاف ذلك. ثم قال له: ائتني بخبره وما يكون من أمره بعد رأس الحول.
قال: فمات سيف بن ذي يزن قبل أن يحول الحول. فكان عبد المطلب يقول: يا أيها الناس، لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك، فإنه إلى نفاد ولكن يغبطني بما يبقى لي ويعقبني من بعدي من شرفه وذكره وفخره. قال: فإذا قيل له ما ذلك؟ قال: ستبلغن ولو بعد حين.
وفي ذلك يقول أمية بن عبد شمس القرشي:" من الوافر "
جَلَبْنَا المدحَ تحقبه المطايا ... إلى أكوارِ أجمالٍ ونوقِ